تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٢٠
الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وصار الشرط الثاني شرطا في الأول، وصار المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان الله يريد أن يغويكم. فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي. ونظيره: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها) * وقال الزمخشري: قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله: إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني. وقال ابن عطية: وليس نصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين، وأن إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى. وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال: جواب الأول النصح، وجواب الثاني النفع.
والظاهر أن معنى يغويكم يضلكم من قوله: غوى الرجل يغوي وهو الضلال. وفيه إسناد الإغواء إلى الله، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون: إن الضلال هو من العبد. وقال الزمخشري: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشادا وهداية انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف، فلا ينبغي أن يقال: إذا عرف الله كما قال الزمخشري، وللمعتزلي أن يقول: لا يتعين أن تكون إن شرطية، بل هي نافية والمعنى: ما كان الله يريد أن يغويكم، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى، ويكون قوله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر. وقيل: معنى يغويكم يهلككم، والغوي المرض والهلاك. وفي لغة طيء: أصبح فلان غاويا أي مريضا، والغوي بضم الفصيل وقاله: يعقوب في الإسلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعا قاله: الفراء، وحكاه الطبري يقال منه: غوى يغوي. وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك، أو لما يهلك بعد. قال ابن الأنباري: وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره. وإذا كان معنى يغويكم يهلككم، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني، بل الحجة من غير هذا، ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ وفي قوله: هو ربكم، تنبيه على المعرفة بالخالق، وأنه الناظر في مصالحكم، إن شاء أن يغويكم، وإن شاء أن يهديكم. وفي قوله: وإليه ترجعون، وعيد وتخويف.
* (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون) *: قيل: هذه الآية اعترضت في قصة نوح، والأخبار فيها عن قريش. يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: افترى القرآن، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي: بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه، فقال عليه السلام قل: إن افتريته فعلي إثم إجرامي، والإجرام مصدر أجرم، ويقال: أجرم وهو الكثير، وجرم بمعنى. ومنه قول الشاعر:
* طريد عشيرة ورهين ذنب * بما جرمت يدي وجنى لساني * وقرئ أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم، ذكره النحاس، وفسر بآثامي. ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، وقيل: مما تجرمون من الكفر والتكذيب.
* (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) *: قرأ الجمهور وأوحي
(٢٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 215 216 217 218 219 220 221 222 223 224 225 ... » »»