تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٥٨
يهدي استثناء منقطع، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع. وقيل: أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى. ويكون استثناء متصلا لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية، بخلاف الأصنام. فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي: أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ كيف تحكمون استفهام آخر أي: كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أندادا وشركاء؟ وهاتان جملتان أنكر في الأولى، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.
* (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *: الظاهر أن أكثرهم على بابه، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال:
* أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد هان من بالت عليه الثعالب * وقيل: المراد بأكثرهم جميعهم، والمعنى: ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظنا، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم. والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئا أي: من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع. وقيل: وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه. وقرأ عبد الله: تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتا والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن، وتقليد الآباء. وقيل: نزلت في رؤساء اليهود قريش.
* (وما كان هاذا القرءان أن * يفترى * من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *: لما تقدم قولهم: * (ائت بقرءان غير هاذا أو بدله) * وكان من قولهم: إنه افتراه قال تعالى: وما كان هذا القرآن أن يفتري أي: ما صح، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى. والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه، وكونه جامعا للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى. والظاهر أن أن يفتري هو خبر كان أي: افتراء، أي: ذا افتراء، أو مفترى. ويزعم بعض النحويين أن أن هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك: ما كان زيد ليفعل، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أن وأن اللام وأن يتعاقبان، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها، وحيث حذفت اللام ظهرت أن. والصحيح أنهما لا يتعاقبان، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك. وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أن يفتري خبرا لكان، بل الخبر محذوف. وأن يفتري معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما: الكذب والتصديق المتضمن الصدق، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدقا لما معكم. وعم الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها، ولا هي في بلده ولا قومه، لا بتصديق الإشراط، لأنهم لم يشاهدوا شيئا منها. وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع. وقرأ الجمهور: تصديق وتفصيل بالنصب، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي: ولكن كان تصديق أي مصدقا ومفصلا. وقيل: انتصب مفعولا من أجله، والعامل
(١٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 ... » »»