تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٨٥
خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا.
وإذا في قوله: إذا فشلتم، قيل: بمعنى إذ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك، ويتعلق بتحسونهم أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. وقيل: حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله: وتنازعتم على زيادة الواو، قاله: الفراء وغيره. وثم صرفكم على زيادة ثم، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف. والصحيح: أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، فقدره ابن عطية: انهزمتم. والزمخشري: منعكم نصرة، وغيرهما: امتحنتم. والتقادير متقاربة. وحذف جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو) * تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو: انقسمتم إلى قسمين. ويدل عليه ما بعده، وهو نظير: * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) * التقدير: انقسموا قسمين: فمنهم مقتصد لا يقال: كيف، يقال: انقسموا فيمن فشل وتنازع، وعصى. لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.
وقال أبو بكر الرازي: دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا، ودل ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) النبي بأن الأخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى. * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة) * قال ابن عباس وجمهور المفسرين: الدنيا الغنيمة. وقال ابن مسعود، ما شعرنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يريد الدنيا حتى كان يوم أحد، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعا، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر. وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه. وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف. * (ثم صرفكم عنهم) * أي جعلكم تنصرفون. * (ليبتليكم) * أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها. وقيل: صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم. وقيل: المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم. وتأولته المعتزلة على معنى: ثم انصرفتم عنهم، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين. وقيل: معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص. * (ولقد عفا عنكم) * قيل: عن عقوبتكم على فراركم، ولم يؤاخذكم به. وقيل: برد العدو عنكم. وقيل: بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم. وقيل: بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة. فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم.
قال الحسن: قتل منهم جماعة سبعون، وقتل عم النبي صلى الله عليه وسلم)، وشج وجهه وكسرت رباعيته. وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم. يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن. والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب، أي لم يؤاخذكم بالعصيان. ويدل عليه قرينة قوله:
(٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 ... » »»