تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٨١
عدوهم قاله: الجمهور. أو على دينهم وقتال الكفار. والظاهر العموم لكل صابر على ما أصابه من قتل في سبيل الله، أو جرح، أو بلاء، أو أذى يناله بقول أو فعل أو مصيبة في نفسه، أو أهله أو ماله، أو ما يجري مجرى ذلك. وكثيرا ما تمدحت العرب بالصبر وحرصت عليه كما قال طرفة بن العبد:
* وتشكي النفس ما أصاب بها * فاصبري إنك من قوم صبر * * إن تلاقي منفسيا لاتلفنا * فرح الخير ولا نكبو لضر * * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء، وحصر قولهم في ذلك القول، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى، ولا قول إلا هذا القول. لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب، واختلاف الأقوال. فمن قائل: نأخذ أمانا من أبي سفيان، ومن قائل: نرجع إلى ديننا، ومن قائل ما قال حين فر. وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا، بل صبروا وقالوا هذا القول، وهم ربيون أحبار هضما لأنفسهم، وإشعارا أن ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب من البشر، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى.
وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان. وإن قالوا في موضع الاسم، جعلوا ما كان أعرف الاسم، لأن إن وصلتها تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للضمير، يتنزل منزلة العلم. وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم، جعلوه اسم كان، والخبران قالوا. والوجهان فصيحان، وإن كان الأول أكثر. وقد قرىء: ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة، ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة. فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حريا بالإجابة، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى، فجاء ذلك على سبيل التأكيد.
وقيل: الذنوب ما دون الكبائر، والإسراف الكبائر. وقال أبو عبيدة: الذنوب هي الخطايا، وإسرافنا أي تفريطنا. وقال الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة.
والإقدام هنا قيل: حقيقة، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدو كي لا تزل. وقيل: المعنى شجع قلوبنا على لقاء العدو. وقيل: ثبت قلوبنا على دينك. والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها. وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين. وكثيرا ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله: (أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا) * (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) * وقيل: اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة، وإسرافنا في الهزيمة، وثبت أقدامنا بالمصابرة، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة.
قال ابن فورك: في هذا الدعاء رد على القدرية لقولهم: إن الله لا يخلق أفعال العبد، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لم يفعله، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين. وقد جاء في القرآن أدعية أعقب الله بالإجابة فيها * (فاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة) * قرأ الجحدري: فأثابهم من الإثابة. ولما تقدم في دعائهم ما يتضمن الإجابة فيه الثوابين وهو قولهم: اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا، فهذا يتضمن ثواب الآخرة. وثبت أقدامنا وانصرنا يتضمن ثواب الدنيا، أخبر تعالى أنه منحهم الثوابين. وهناك بدؤا في الطلب بالأهم عندهم، وهو ما ينشأ عنه ثواب الآخرة، وهنا أخبر بما أعطاهم مقدما. ذكر ثواب الدنيا ليكون ذلك إشعارا لهم بقبول دعائهم وإجابتهم إلى طلبهم،
(٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 ... » »»