تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٠٢
تتضمن الجزاء أي: وكفى به مجازيا لمن أطاع. قال ابن عطية: فيه معنى أن تقول: فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله: وكفى، انتهى. وقد بينا فساد قول من يدعي أن قولك: كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله: * (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *. وقال الزمخشري: وكفى بالله عليما، بجزاء من أطاعه. أو أراد فصل المنعم عليهم، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه، وكفى بالله عليما بعباده، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى. وهي ألفاظ المعتزلة.
* (عليما يأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) * مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله، أمر بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال: خذوا حذركم. فعلمهم مباشرة الحروب. ولما تقدم ذكر المنافقين، ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد، فنادى ولا باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم، والحذر والحذر بمعنى واحد. قالوا: ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك. ومعنى خذ حذرك: أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره. ويقال: أخذ حذره إذا احترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم، والمعنى: احترزوا من العدو. ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة، وسرية بعد سرية، أو كتيبة واحدة مجتمعة.
وقرأ الجمهور: فانفروا بكسر الفاء فبهما. وقرأ الأعمش: بضمها فيهما، وانتصاب ثبات وجميعا على الحال، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء. وقال الفراء: العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها. أنشدني بعضهم:
* فلما جلاها بالأيام تحيزت * ثباتا عليها ذلها واكتئابها * ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى. وأوفى أو انفروا للتخيير. وقال ابن عباس: هذه الآية نسختها. * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * قيل: وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم.
* (وإن منكم لمن ليبطئن) * الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج وابن زيد في آخرين: لمن ليبطئن هم المنافقون، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس، أو النسب، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهرا. وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: هم ضعفه المؤمنين. ويبعد هذا القول قوله: عند مصيبة المؤمنين * (قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) * وقوله: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن، إنما يصدر عن منافق. واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير: للذي والله ليبطئن. والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن.
قالوا: وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه، ولا حجة فيها لأن جملة القسم محذوفة، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول، واحتمل أن لا يكون. وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى: * (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) * في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي: وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج. وقال ابن عطية: اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور. وقيل: هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى. وهذا القول الثاني خطأ. وقرأ الجمهور: ليبطئن، بالتشديد. وقرأ مجاهد: ليبطئن بالتخفيف. والقراءتان يحتمل أن
(٣٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 297 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 ... » »»