تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٧١
الفقه، ولم يذكر في هذه السورة منه، وذكر ذلك في المائدة، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ولذلك قال الزمخشري: (فإن قلت): فما تصنع بقوله في سورة المائدة: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ (قلت): قالوا: إنها أي من لابتداء الغاية (فإن قلت): قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب، إلا معنى التبعيض (قلت): هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء.
* (إن الله كان عفوا غفورا) * كناية عن الترخيص والتيسير، لأن من كانت عاته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسرا غير معسر انتهى كلامه. والعجب منه إذ أذعن إلى الحق، وليس من عادته، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه. وأيضا فكلامه أخيرا حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.
2 (* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا * من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *)) 2 * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * قال قتادة: نزلت في اليهود. وفي رواية عن ابن عباس: في رفاعة بن زيد بن التابوت. وقيل: في غيره من اليهود. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الآخرة، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين، وكيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم) الذي يأتي شهيدا عليهم وعلى غيرهم. ولما كان اليهود أشد إنكارا للحق، وأبعد من قبول الخير. وكان قد تقدم أيضا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون، وهم أشد الناس تحليا بهذين الوصفين، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم. وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * فأغنى عن إعادته..
والنصيب: الحظ. ومن الكتاب: يحتمل أن يتعلق بأوتوا، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيبا. وظاهر لفظ الذين أوتوا، يشمل اليهود والنصارى، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل. وقيل: الكتاب هنا التوراة، والنصيب قيل: بعض علم التوراة، لا العمل بما فيها. وقيل: علم ما هو حجة عليهم منه فحسب. وقيل: كفرهم به. وقيل: علم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
* (يشترون الضلالة) * المعنى: يشترون الضلالة بالهدى، كما قال: * (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) *.
قال ابن عباس: استبدلوا الضلالة بالإيمان. وقال مقاتل: استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى. ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى، فصار ذلك بغيا شديدا عليهم، وتوبيخا فاضحا لهم، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان. وكتابهم طافح بوجوب اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وقيل: اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهم على تثبيت دينهم قاله: الزجاج.
* (ويريدون أن تضلوا السبيل) * أي: لم يكفهم أن
(٢٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 266 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 ... » »»