تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٢٣
* (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلا بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده: عليكم كتاب الله أي: الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدرا مؤكدا كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني: كتب الله عليكم، جعله فعلا ماضيا رافعا ما بعده، أي: كتب الله عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميقع أيضا أنه قرأ: كتب الله عليكم جمعا ورفعا أي: هذه كتب الله عليكم أي: فرائضه ولازماته.
* (وأحل لكم وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر، وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، والجمع بينهما. وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جفعر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير، وملخص ما قال: أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد. وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) بل إذا ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) عرض على القرآن، فإن وافقه قبل، وإلا رد. وما ذهبوا إليه ليس بصحيح، لأن الحديث لم يعارض القرآن، غاية ما فيه تخصيص عموم، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض، روي عن جماعة من الصحابة رواه: علي، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وعائشة. حتى ذكر بعض العلماء أنه متوتر موجب للعلم والعمل. وذكر ابن عطية: إجماع الأمة على تحريم الجمع، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه، ولا يعد هذا التخصيص نسخا للعموم خلافا لبعضهم. وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل: وأحل لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم، فهي حلال لكم تزويجهن، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي، وخصة قتادة بالإماء: أي: وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. وأبعد عبيدة والسدي في رد ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى: وأحل لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. وقال السدي أيضا في قوله: ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج. والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبينها وبين بنت عمتها، وبينها وبين بنت خالها، أو بنت خالتها. وقد روى المنع من ذلك عن: إسحاق بن طلحة، وعكرمة، وقتادة، وعطاء. وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة بنت محمد بن علي، وبنت عمر بن علي، فجمع بين ابنتي عم. وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده.
قال ابن المنذر: لا أعلم أحد، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة، ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى. واندرج تحت هذا العموم أيضا أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها. ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك، وعلى هذا أكثر أهل العلم. وروي عن عمران بن حصين والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان، وأحمد، وإسحاق، أنهما يحرمان عليه، وبه قال: أبو حنيفة. ويندرج أيضا تحت هذا العموم: أنه لو عبت رجل برجل لم تحرم عليه أمه ولا ابنته، وبه قال: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا: لا يحرم النكاح العبث بالرجال. وقال الثوري، وعبيد الله بن الحسن: هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال. وقال
(٢٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 218 219 220 221 222 223 224 225 226 228 229 ... » »»