تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٧٤
* فما يدري الفقير متى غناه * ولا يدري الغني متى يعيل * وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف، إذ التقدير: أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدى هو إليه. تقول: دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر، لأنك تقول: دنوت لكذا.
* (تعولوا وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة) * الظاهر: أن الخطاب للأزواج، لأن الخطاب قبله لهم، قاله: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج. قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثك وترثيني فتقول: نعم. فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور. وقيل: الخطاب لأولياء النساء، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام. قاله: أبو صالح، واختاره: الفراء وابن قتيبة. وقيل: المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى، وأمروا بضرب المهور قاله: حضرمي، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها.
والصدقات المهور. قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة: نحلة فريضة. وقيل: عطية تمليك قاله الكلبي والفراء. وقيل: شرعة ودينا قاله: ابن الأعرابي. قال الراغب: والنحلة أخص من الهبة، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي. ومن قال: النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى. ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في: * (وءاتوا اليتامى أموالهم) *، وأنهما متساويان في التحريم. ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية.
وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة، على وزن سمرة. وقرأ قتادة وغيره: بإسكان الدال وضم الصاد. وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم: بضمها. وقرأ النخعي وابن وثاب: صدقتهن بضمها والافراد، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر، لأن معنى: وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مضمرة. وقيل: مصدر في موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي: منحولات. وقيل: انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع، أي: أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة ودينا. وقيل: إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات. وفي قوله: وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق: أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق، ولا لشيء من أحكامه. وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه.
* (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * الخطاب فيه الخلاف: أهو للأزواج؟ أو للأولياء؟ وهو مبني على الخلاف في: وآتوا النساء. وقال حضرمي: سبب نزولها أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات، والضمير في: منه، عائد على الصداق قاله: عكرمة. إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزا وصار شبيها بقولهم: هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية، هو أحسن فتى. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولا بعضه. فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعدا انتهى. وأقول: حسن
(١٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 ... » »»