تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٧٢
على أحد التخريجين فيه، والتقدير: فانكحوا أي تزوجوا واحدة، أوطئوا ما ملكت أيمانكم. ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز: فواحدة بالرفع. ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء، والخبر مقدر أي: فواحدة كافية. ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي: فالمقنع، أو فحسبكم واحدة، أو ما ملكت أيمانكم. وأو هنا لأحد الشيئين: إما على التخيير، وإما على الإباحة.
وروي عن أبي عمرو: فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء، والمعنى: على هذا أن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: أو من ملكت أيمانكم، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن. ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها، والمنهي عن الاستنجاء بها. وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل، فأول الشرطين: وإن ختفم أن لا تقسطوا، وجوابه: فانكحوا. صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد. وثاني الشرطين قوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه: فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة، أو تسر بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به، والتعطف على النساء والنظر لهن.
وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد، وجملة اعتراض. فالشرط: وإن خفتم أن لا تقسطوا، وجوابه: فواحدة. وجملة الاعتراض قوله: فانكحوا ما طاب لكمك من النساء مثنى وثلاث ورباع، وكرر الشرط بقوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا. لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه: كما جاء في فلما جاءهم ما عرفوا بعد قوله، ولما جاءهم كتاب من عند الله إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت. وكذلك * (فلا تحسبنهم بمفازة) * بعد قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون) * إذ طال الفصل بما بعده بين: لا تحسبن، وبين بمفازة، فأعيدت الجملة، وصار المعنى على هذا التقدير، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة. قال: وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي. ولعله لا يصح عنه، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي، وبطلان للأحكام الشرعية: لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله: ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة، أو يتسرى بما ملكت يمينه. ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغوا لا فائدة له على زعمه. والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان، وهذا عدل في القسم والنفقة. ولذلك نفيت هناك استطاعته، وعلق هنا على خوف انتفائه، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالبا. وانتزع الشافعي من قوله: فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، خلافا لأبي حنيفة، إذ عكس. ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، والحكمة سكون النفس بالأزواج، وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح، لأن الزائد على المتساويين يكون زائدا على المساوي الثاني لا محالة.
* (ذلك أدنى أن * لا * تعدلوا) * الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة. أدنى من الدنو أي: أقرب أن لا تعولوا، أي: أن لا تميلوا عن الحق.
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 ... » »»