تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٦٩
البقرة. وحسن هذا القول الزمخشري بقوله: وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. قال: (فإن قلت) قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ (قلت): لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق. ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فتعي عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه. وملخصه أن قوله: إلى أموالكم ليس قيدا للاحتراز، إنما جيء به لتقبيح فعلهم، ولأن يكون نهيا عن الواقع، فيكون نظير قوله: * (أضعافا مضاعفة) * وإن كان الربا على سائر أحواله منهيا عنه. وما قدمناه نحن يكون ذلك قيدا للاحتراز، فإنه إذا كان الولي فقيرا جاز أن يأكل بالمعروف، فيكون النهي منسحبا على أكل مال اليتيم لمن كان غنيا كقوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف) *.
* (إنه كان حوبا كبيرا) * قرأ الجمهور بضم الحاء، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم، وبعض القراء: إنه كان حابا كبيرا، وكلها مصادر. قال ابن عباس والحسن وغيرهما: الحوب الإثم. وقيل: الظلم. وقيل: الوحشة. والضمير في إنه عائد على الأكل. وقيل: على لتبدل. وعوده على الأكل أقرب لقربه منه، ويجوز أن يعود عليهما. كأنه قيل: إن ذلك كما قال:
* فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق * أي كان ذلك * (وإن خفتم * أن لا * تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: * (نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن. قيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي بما كسن في حقوقهن. وقاله أيضا ربيعة. وقال عكرمة: نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه، فقيل له: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا. وقال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والسدي: كانت العرب تتخرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، يتزوجون العشرة فأكثر، فنزلت في ذلك: كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الحور عنه. وقال مجاهد: إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا على ما حد لكم. وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصا بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء.
والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير: وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم، ونهوا عن الاستبدال المذكور، وعن أكل أموال اليتامى، كان في ذلك مزيدا اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * فحوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي: في نكاح يتامى النساء، فانكحوا غيرهن، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى. فاليتامى إن كان أريد به اليتم
(١٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 174 ... » »»