تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥٠٢
الروح فيه، وقاله عبد الجبار. فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدره. قيل: أو يكون: كن، عبارة عن كونه لحما ودما، وقوله: فيكون، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة، وإنما ذلك على سبيل التمثيل، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر.
و: ثم، قيل لترتيب الخبر، لأن قوله: كن، لم يتأخر عن خلقه، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي: أنشأه أولا من طين، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحما ودما على من قال ذلك.
وقال الراغب: ومعنى: كن. بعد: خلقه من تراب: كن إنسانا حيا ناطقا، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهرا ملقى لا روح فيه، ثم جعل له الروج. وقوله: كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنسانا. إنتهى.
والضمير في: له، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن، وهو قول الحوفي.
* (الحق من ربك) * جملة من مبتدأ وخبر، أخبر تعالى أن الحق، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك، فجميع ما أنبأك به حق، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى، ويجوز أن يكون: الحق، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو. أي: خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق، و: من ربك، حال أو: خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق. ومع كونها حقا فهي إخبار صادر عن الله.
* (فلا تكن من الممترين) * قيل: الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى، والأخبار الواردة من الله تعالى. وقيل: المراد به أمة من ظاهر الخطاب له. قال الزمخشري: ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يكون ممتريا، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفا لغيره. وقال الراغب: الامتراء استخراج الرأي للشك العارض، ويجعل عبارة عن الشك، وقال: فلا تكن من الممترين ولم يكن ممتريا ليكون فيه ذم من شك في عيسى.
* (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) * أي: من نازعك وجادلك، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين، وكان الأمر كذلك بينه صلى الله عليه وسلم) وبين وفد نجران.
والضمير في: فيه، عائد على عيسى، لأن المنازعة كانت فيه، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله: * (إن مثل عيسى) * وما بعده جاء من تمام أمره، وقيل: يعود على الحق، وظاهر من العموم في كل من يحاج في أمر عيسى. وقيل: المراد وفد نجران.
و: من، يصح أن تكون موصولة، ويصح أن تكون شرطية، و: العلم هنا: الوحي الذي جاء به جبريل، وقيل: الآيات المتقدمة في أمر عيسى، الموجبة للعمل. و: ما، في: ما جاءك، موصولة بمعنى: الذي، وفي: جاءك، ضمير الفاعل يعود عليها. و: من العلم، متعلق بمحذوف في موضع الحال، أي: كائنا من العلم. وتكون: من، تبعيضية. ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك، قال بعضهم، ويخرج على قول الأخفش: أن تكون: ما، مصدرية، و: من، زائدة ، والتقدير: من بعد مجيء العلم إياك.
* (فقل تعالوا) * قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس، إذا التقدير تفاعل، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو، فإذا أمرت الواحد قلت: تعال، كما تقول: إخش واسع. وقرأ الحسن، وأبو واقد، وأبو السمال: بضم اللام، ووجههم أن أصله: تعاليوا، كما تقول: تجادلوا، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين، وهذا تعليل شذوذ.
* (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * أي: يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب: بقل: وبين من حاجه، وفسر على هذا الوجه: الأبناء بالحسن والحسين، و: بنسائه: فاطمة، و: الأنفس بعلى. قال الشعبي: ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم) مع حاجة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: لما نزلت هذه الآية: * (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم): فاطمة وحسنا وحسينا، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي).
وقال قوم: المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته، ولو عزم نصارى
(٥٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 497 498 499 500 501 502 503 504 505 506 507 ... » »»