هو للثبوت، وجاءت الحال الثانية جارا ومجرورا لأنه يقد بالأسم. وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة. ألا ترى في الحال وصف في المعنى؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. كقوله تعالى: * (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه) * فكذلك الحال، بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد، كما أن الاسم يشعر بالثبوت، ويتعلق: في المهد، بمحذوف إذ هو في موضع الحال، التقدير: كائنا في المهد وكهلا، معطوف على هذه الحال، كأنه قيل: طفلا وكهلا، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكسا: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل) * ومن زعم أن: وكهلا، معطوف على: وجيها، فقد أببعد.
والمهد: مقر الصبي في رضاعه، وأصله مصدر سمي به يقال: مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها، أي: وطأت، ويقال: أمهد الشيء ارتفع.
وتقدم تفسير: الكهل لغة. وقال مجاهد: الكهل الحليم، وهذا تفسير باللازم غالبا، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته، فلا يكون في ذلك كالشارخ، والعرب تتمدح الكهولة، قال:
* وما ضر من كانت بقاياه مثلنا * شباب تسامى للعلى وكهول ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي، وفي قوله: وكهلا، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة، قاله الربيع، ويقال: إن مريم ولدته لثمانية أشهر، ومن ولد لذلك لم يعش، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. وقيل: كانت العادة أن من تكلم في المهدمات، وفي قوله: * (فى المهد وكهلا) * إشارة إلى تقلب الأحوال عليه، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته. وقال ابن كيسان: ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاما به أنه يكتهل، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. واختلف في كلامه: في المهد، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق؟ أو كان يتكلم دائما في المهد حتى بلغ إبان الكلام؟ قولان: الأول: عن ابن عباس.
* ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو رضيع، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في الهد نبيا لقوله: * (قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى) * ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها. وقيل: لم يكن نبيا في ذلك الوقت، وإنما كان الكلام تأسيسا لنبوته، فيكون قوله: * (وجعلنى نبيا) * إخبارا عما يؤول إليه بدليل قوله: * (وجعلنى مباركا أين) * ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلا، فقيل: كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة.
وقيل: ينزل من السماء كهلا ابن ثلاث وثلاثين سنة، فيقول لهم: إني عبد الله، كما قال في المهد، وهذه فائدة قوله: وكهلا، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلا، قاله ابن زيد. وقال الزمشخري: معناه: ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء. إنتهى.
قيل: وتكلم في المهد سبعة: عيسى، ويحيى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج. وصبي ماشطة امرأة فرعون، وصاحب الجبار، وصاحب الأخدود، وقصص هؤلاء مروية، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعا في ثلاثة، لأن ذلك كان إخبارا قبل أن يعلم بالباقين، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولا، ثم أعلم بالباقين.
* (ومن الصالحين) * أي: وصالحا من جملة الصالحين، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء.
وانتصاب: وجيها، وما عطف عليه على الحال من قوله: بكلمة منه، وحسن ذلك، وإن كان نكرة، كونه وصف بقوله: منه، وبقوله: منه، وبقوله: اسمه المسيح.
* (قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر) * لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح، نادت ربها، وهو الله، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب، وهذه القضية أعجب