تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٤٨٨
موصوفها على القولين المذكورين. وقرأ بعض القراء: فأنفخها، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة، إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو: على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله: * (فتنفخ فيها) * ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر. كما قال:
* ما شق جيب ولا قامتك نائحة * ولا بكتك جياد عند إسلاب يريد: ولا قامت عليك، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء. وقال النابغة:
كالهبرقي تنحى ينفخ الفحماء * فعدى: نفخ، لمنصوب، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر، ويمكن أن يكون على التضمين، أي: يضرم بالنفخ الفحم، فيكون هنا ناقصة على بابها، أو بمعنى: تصير.
وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: طائرا، وقرأ الباقون: طيرا، وانتصابه على أنه خبر: يكون، ومن جعل: يكون، هنا تامة، و: طائرا، حالا فقد أبعد. وتعلق بإذن الله، قيل: بيكون. وقيل: بطائر، ومعنى: بإذن الله، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة، وتوضيح أنها من قبله، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن الله وحده.
وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم، بل هذه الخوارق جاءت تفسيرا لقوله: * (أنى قد جئتكم بآية من ربكم) * وقيل: كان ذلك باقتراح منهم، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا على سبيل التعنت جريا على عاداتهم مع أنبيائهم، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق، وهو أكمل الطير خلقا، له: ثدي، وأسنان، وآذان، وضرع، يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، إنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش، وتحيض أنثاه وتلد.
روي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش. فسألوه أشد الطير خلقا لأنه يطير بغير ريش، ويقال: ما صنع غير الخفاش، ويقال: فعل ذلك أولا وهو مع معلمه في الكتاب، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى: هذا ساحر.
* (وأبرىء الاكمه والابرص) * تقدم تفسيرهما في المفردات. وقال مجاهد: الأكمه هو الأعشى. وقال عكرمة: هو الأعمش. وقال الزمخشري: هو الذي ولد أعمى. وقيل: هو الممسوح العين، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وقال ابن عباس، والحسن، والسدي: هو الأعمى على الإطلاق. وحكى النقاش: أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم، الميت الفؤاد، وقال ابن عباس أيضا، وقتادة: هو الذي يولد
(٤٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 483 484 485 486 487 488 489 490 491 492 493 ... » »»