تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٠٤
فيه قولان للسلف.
أحدهما: أنه بيان لعدد الطلاق الذي للزوج أن يرتجع منه دون تجديد مهر وولي، وإليه ذهب عروة، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أنه تعريف سنة الطلاق، أي: من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما امساكها محسنا عشرتها، وبه قال ابن مسعود ، وابن عباس وغيرهما.
قال ابن عطية: والآية تتضمن هذين المعنيين، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة، والتزام حقوق الزوجية. انتهى كلامه.
وحكى الزمخشري القول الأول، فقال: وقيل معناه: الطلاق الرجعي مرتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف، أي برجعة، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة، أو بأن لا يراجعها مراجعة، يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها، وقيل: بأن يطلقها الثالثة. وروي أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أين الثالثة؟ فقال عليه السلام (أو تسريح بإحسان). انتهى كلامه.
وتفسير: التسريح بإحسان، أن لا يراجعها حتى تبين بالعدة، هو قول الضحاك، والسدي. وقوله: أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها، كلام لا يتضح تركيبه على تفسير قوله: أو تسريح بإحسان، لأنه يقتضي أن يراجعها مراجعة حسنة مقصودا بها الإحسان والتآلف والزوجية، فيصير هذا قسيم قوله: * (فإمساك بمعروف) * فيكون المعنى: فامساك بمعروف أو مراجعة مراجعة حسنة. وهذا كلام لا يلتئم أن يفسر به * (أو تسريح بإحسان) * ولو فسر به فإمساك بمعروف لكان صوابا. وأما قوله: وقيل بأن يطلقها الثالثة، فهو قول مجاهد وعطاء وجمهور السلف، وعلماء الأمصار.
قال ابن عطية: ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه.
أولها: أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين، فأين الثالثة؟ فقال عليه السلام: (هي قوله: * (أو تسريح بإحسان) *).
والوجه الثاني: أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرىء: وان عزموا السراح؟.
والوجه الثالث: أن فعل تفعيلا، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل. انتهى كلامه. وهو كلام حسن.
والذي يدل عليه ظاهر اللفظ: أن: الطلاق، الألف واللام فيه للعهد، وهو الطلاق الذي تقدم قبل قوله: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذالك) * وهو ما كان الطلاق رجعيا، وأن قوله: * (مرتان) * بيان لعدد هذا الطلاق، وأن قوله: * (فإمساك بمعروف) * بالفاء التي هي للتعقيب بعد صدور الطلقتين، ووقوعها كناية عن الرد بعد الطلقة الثانية، وفاء التعقيب تقتضي التعدية، وأن قوله: * (أو تسريح بإحسان) * صريح في الطلقة الثالثة، لأنه معطوف على * (فإمساك بمعروف) * وما عطف على المتعقب بعد شيء لزم فيه أن يكون متعقبا لذلك الشيء، فجعل له حالتان بعد الطلقتين، إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يطلق بإحسان. إلا أن العطف بأو ينبو عنه الدلالة على هذا المعنى، لأنه يدل على أحد الشيئين، ويقوي إذ ذاك أن يكون التسريح كناية عن التخلية والترك، لأن المعنى يكون: الطلاق مرتين فبعدهما أحد أمرين: إما الامساك، وهو كناية عن الرد، وإما التسريح، فيكون كناية عن التخلية. واستمرار التسريح لا إنشاء التسريح، وإما أن تدل على إيقاع التسريح بعد الإمساك المعبر به عن الرد، فإن قدر شرط محذوف، وجعل: فإمساك، جوابا لذلك الشرط، وجعل الإمساك كناية عن استمرار الزوجية، أمكن أن يراد بالتسريح إنشاء الطلاق، فيكون التقدير: فإن أوقع التطليقتين ورد الزوجة * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *، لأن الرد يعتقبه أحد هذين، إما الاستمرار على الزوجية، فيكون بمعروف، وإما الطلقة الثالثة ويكون بإحسان.
وقال في (المنختب) ما ملخص منه: الطلاق مرتان، قال قوم هو مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع دفعة واحدة، وهذا تفسير من قال: الجمع بين الثلاث حرام، وهو مذهب أبي، وجماعة من الصحابة. والألف واللام للاستغراق، والتقدير: كل الطلاق مرتان، ومرة
(٢٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 199 200 201 202 203 204 205 206 207 208 209 ... » »»