المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر، قاله جماعة، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه. فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة، أو يكون على حذف مضاف، أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذين آمنوا، فتارة يكون المحذوف مرادا وتارة لا يكون مرادا، بل مخادعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمنزلة مخادعة الله، فجاء: يخادعون الله، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج.
وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله تعالى بالأوجه التي ذكرناها، كما ذكرناها، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم، لأن المعنى يخادعون الذين آمنوا، كما ذهب إليه الزمخشري، وقال: يكون من باب: أعجبني زيد وكرمه، المعنى هذا أعجبني كرم زيد، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة، وجعل من ذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه، إن الذين يؤذون الله ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلم له. وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها، إن شاء الله تعالى. وأما أعجبني زيد وكرمه، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزا لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة، فصار من المعنى نظيرا لقوله تعالى: * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال) *، فلا يدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم. وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل، وفاعل يأتي لخمسة معان: لاقتسام الفاعلية، والمفعولية في اللفظ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى، ولموافقة أفعل المتعدي، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد. ومثل ذلك: ضارب زيدا عمر، وباعدته، وواريت الشيء، وقاسيت. وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع، وكأنه قال: يخدعون الله، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة، وقد تقدمت. ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة، فمخادعتهم تقدم تفسيرها، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام، وإن أبطنوا خلافه، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم.
وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم، من تعظيمهم عند المؤمنين، والتطلع على أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية، وغير ذلك، وما ينالون من الإحسان بالهداية وقسم الغنائم. وقرأ: وما يخادعون، الحرميان، وأبو عمرو. وقرأ باقي السبعة: وما يخدعون. وقرأ الجارود بن أبي سبرة، وأبو طالوت عبد السلام بن شداد: وما يخدعون مبنيا للمفعول. وقرأ بعضهم: وما يخادعون، بفتح الدال مبنيا للمفعول. وقرأ قتادة، ومورق العجلي: وما يخدعون، من خدع المشدد مبنيا للفاعل، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة. فهذه ست قراءات توجيه: الأولى: أن المعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع، بأن ينفعل له فيما يختار، وينال منه ما يطلب على غرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له، ووبال ذلك ليس راجعا للمخدوع، إنما وباله راجع إلى المخادع، فكأنه ما خادع ولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة، وهو لا يشعر بذلك جهلا منه بقبيح انتحاله وسوء مآله. وعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له، كما قال: