تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ١٩٦
مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسما، ومتممة لمعناه إن كان حرفا. والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في الآية منصوبة بقوله: * (إنما نحن مصلحون) *. والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملا على متى منصوبا بفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجمهور جوازا إذا قمت فعمر وقائم، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا الفجائية جوابا لإذا الشرطية، قال تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) * إذا لهم مكر في آياتنا، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القول هنا للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم)، أو بعض المؤمنين، وكل من هذا قد قيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: * (لا تفسدوا في الأرض، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين.
وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى: * (حتى توارت بالحجاب) * سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولا للقول مفسرا له.
وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة التي هي: لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الاسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى: * (الحمد لله) *. وإفسادهم في الأرض بالكفر، قاله ابن عباس، أو المعاصي، قاله أبو العالية ومقاتل، أو بهما، قاله السدي عن أشياخه؛ أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي، قاله مجاهد؛ أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره علي بن عبيد الله، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم) والقرآن؛ أو بقصدهم تغيير الملة، قاله الضحاك، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه، قاله بعضهم.
وقال الزمخشري:
(١٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 191 192 193 194 195 196 197 198 199 200 201 ... » »»