تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ١٨٢
من العذاب في النيران. وبقي قسم ثالث أظهروا الإسلام مقالا وأبطنوا الكفر اعتقادا وهم المنافقون، أخذ يذكر شيئا من أحوالهم.
ومن في قوله: ومن الناس للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد، فكأنه قال: ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختوم على قلوبهم، كما ذهب إليه الزمخشري فقال: فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختوم على قلوبهم؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنسا واحدا، وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا الجنس مغايرا للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس، انتهى. لأن المنافقين داخلون في الأوصاف التي ذكرت للكفار من استواء الإنذار وعدمه، وكونهم لا يؤمنون، وكونهم مختوما على قلوبهم وعلى سمعهم ومجعولا على أبصارهم غشاوة ومخبرا عنهم أنهم لهم عذاب عظيم، فهم قد اندرجوا في عموم الذين كفروا وزادوا أنهم قد ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في دعواهم. وسيأتي شرح ذلك.
وسأل سائل: ما معنى: * (ومن الناس من يقول) *؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس، فكيف يصلح لهذا الجار والمجرور وقوعه خبرا للمبتدأ بعده؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين، ثم أعقب بذكر المنافقين، فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله: ومن الناس من يعجبك، ومن الناس من يشري نفسه، فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق، كما فصلوا إلى من يعجبك قوله، ومن يشري نفسه، ومن: في قوله تعالى: * (من يقول) * نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر. ويقول: صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه. وكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله: * (من المؤمنين رجال صدقوا) * قال: إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله: ومن الناس، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله: * (ومنهم الذين يؤذون النبى) *. واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال، لأن الذي يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق يقول: وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره.
وأما استضعاف أبي البقاء كون من موصولة وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم: عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه، ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وقد وصفهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية، وذكر عنهم أقاويل معينة قالوها، فلا يكن ذلك صاردا إلا من معين فأخبر عن ذلك المعين. والذي نختار أن تكون من موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح. ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جدا، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلا الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائما، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكرا، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قال
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»