تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٠٦
الأخفش والفراء والزجاج. وقال سيبويه: لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقدير: لا يتبعون، وليظلن. انتهى كلامه.
وتلخص من هذا كله أن في قوله: * (ما تبعوا) * قولين: أحدهما: أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه. والثاني: أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج. وظاهر قوله: * (أوتوا الكتاب) *: العموم، وقد قال به هنا قوم. وقال الأصم: المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب، وفي الآية المتأخرة. ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم، وخصوص ما تأخر، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم، وهو شأن المعاند، وأنه قد آمن به كثير من أهل الكتاب وتبعوا قبلته. واختلفوا في قوله: * (ما تبعوا قبلتك) *. قال الحسن والجبائي: أراد جميعهم، كأنه قال: لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *، ويكون إذ ذاك إخبارا عن المجموع، من حيث هو مجموع، لا حكم على الأفراد. وقال الأصم: بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن. وقد تقدم أن من قول الأصم: أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص، فكأنه قال: كل فرد من أولئك المختصين بالعناد، المستمرين على جحود الحق، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك. وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه. قيل: واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا، وعلمه جهلا، وهو محال، وما استلزم المحال فهو محال. وأضاف تعالى القبلة إليه، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها. أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح، ولا عن شبهة عرضت، وإنما ذلك على سبيل العناد، ومن نازع عنادا فلا يرجى منه انتزاع.
* (وما أنت بتابع قبلتهم) *: هذه جملة خبرية. قيل: ومعناها النهي، أي لا تتبع قبلتهم، ومعناها: الدوام على ما أنت عليه، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر. وقيل: هي باقية على معنى الخبر، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة، فجاءت هذه الجملة رفعا لتجويز النسخ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب، فإنهم قالوا: يا محمد، عد إلى قبلتنا، ونؤمن بك ونتبعك، مخادعة منهم، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم، أو بين بذلك حصول عصمته، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة، أي ما هو بتاركي باطلهم، وما أنت بتارك حقك. وأفرد القبلة في قوله: قبلتهم، وإن كانت مثناة، إذ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الاثنان واحدا من جهة البطلان، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ، لأن قبله * (ما تبعوا قبلتك) *. وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله: * (بتابع) *، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم. وقرأ بعض القراء: بتابع قبلتهم على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس.
* (وما بعضهم بتابع * قبله * بعض) *: الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب. والمعنى: أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تنتصر، وإلى أن النصارى لا تتهود، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض. وقد رأينا اليهود والنصارى كثيرا ما يدخلون في ملة الإسلام، ولم يشاهد يهوديا تنصر، ولا نصرانيا تهود. والمراد بالبعضين: من هو باق على دينه من أهل الكتاب، هذا قول السدي وابن زيد، وهو الظاهر. وقيل: أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب، والبعض الثاني من كان على دينه منهم، لأن كلا منهما يسفه حلم الآخر ويكفره، إذ تباينت طريقتهما. ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك؟ وتضمنت هذه الجمل: أن أهل الكتاب، وإن اتفقوا على خلافك، فهم مختلفون في القبلة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس.
* (ولئن اتبعت
(٦٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 601 602 603 604 605 606 607 608 609 610 611 ... » »»