تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٩٥
والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتا لمصدر محذوف، وإما لكونه حالا. والمعنى: وجعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى، وتبين أن معنى * (يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *: يجعله على صراط مستقيم، كما قال تعالى: * (من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) *. قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم، إذ ذلك الجعل هو الهداية، فكذلك معنى الهدي هنا هو ذلك الجعل. وتبين أيضا من قوله: * (قل لله المشرق والمغرب) * إلى آخره، أن الله جعل قبلتهم خيرا من قبلة اليهود والنصارى، أو وسطا. فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك. فقيل: المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطا بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطا، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي، أي جعلناكم أمة خيارا مثل ما هديناكما باتباع محمد صلى الله عليه وسلم)، وما جاء به من الحق. وقيل: المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطا بجعلهم على الصراط المستقيم، أي جعلناكم أمة وسطا مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية، لأنه قال: * (يهدى من يشآء) *، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل، جعلناكم خير الأمم. وقيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب، جعلناكم أمة وسطا. وقيل: المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا، دون الأنبياء، وفوق الأمم، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى: * (ولقد اصطفيناه في الدنيا) * أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطا. ومعنى وسطا: عدولا، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين وإذا صح ذلك عن رسل الله صلى الله عليه وسلم) وجب المصير في تفسير الوسط إليه. وقيل: خيار، أو قيل: متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر، لم يتخذوا واحدا من الأنبياء إلها، كما فعلت النصارى، ولا قتلوه، كما فعلت اليهود. واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا: أخبر الله عن عدالة هذه الأمة عن خيرتهم، فلو أقدموا على شيء، وجب أن يكون قولهم حجة.
* (لتكونوا شهداء على الناس) *: تقدم شرح الشهادة في قوله: * (وادعوا شهداءكم) *، وفي شهادتهم هنا أقوال: أحدها: ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصا في الحديث في البخاري وغيره. وقال في المنتخب: وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه، وذكروا وجوها ضعيفة، وأظنه عني بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة. وقيل: الشهادة تكون في الدنيا. واختلف قائلوا ذلك، فقيل: المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيرا، وبأخرى فأثنى عليها شرا، فقال الرسول: (وجبت)، يعني الجنة والنار، (أنتم شهداء الله في الأرض) ثبت ذلك في مسلم. وقيل: الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزجاج. وقيل: معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم). وتكون على بمعنى اللام، كقوله: * (وما ذبح على النصب) *، أي للنصب. وقيل: معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيدا، أي محتجا بالتبليغ. وقيل: لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم) على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد. وقيل: شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار. وأسباب هذه الشهادة، أي شهادة هذه العدول أربعة: بمعاينة، كالشهادة على الزنا، وبخبر الصادق، كالشهادة على الشهادة؛ وبالاستفاضة، كالشهادة على الأنساب؛ وبالدلالة، كالشهادة على الأملاك، وكتعديل الشاهد وجرحه
(٥٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 590 591 592 593 594 595 596 597 598 599 600 ... » »»