* (فلنولينك قبلة ترضاها) *: هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها. وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة، ثم بإنجاز الوعد، فيتوالى السرور مرتين، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب. ونكر القبلة، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة، فتعرف بالألف واللام. وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين، لأن متعلق الرضا هو القلب، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة، وإن كان لا يصرح بذلك. قالوا: ورضاه لها، إما لميل السجية، أو لاشتمالها على مصالح الدين. والمعنى: لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك، ولنمكننك من ذلك.
* (فول وجهك شطر المسجد الحرام) *: أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس. قالوا: وإنما لم يذكر في الصلاة، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها. ومن قال نزلت في غير الصلاة، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك، أعني: التوجه في الصلاة. وأقول: في قوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة. وأراد بالوجه: جملة البدن، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن. وكنى بالوجه عن الجملة، لأنه أشرف الأعضاء، وبه يتميز بعض الناس عن بعض. وقد يطلق ويراد به نفس الشيء، ولأن المقابلة تقتضي ذلك، وهو أنه قابل قوله: * (قد نرى تقلب وجهك) * بقوله: * (فول وجهك) *. وتقدم أن الشطر يطلق ويراد به النصف، ويطلق ويراد به النحو. وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه، وهو اختيار الشافعي. وقال الجبائي، وهو اختيار القاضي: المراد منه وسط المسجد ومنتصفه، لأن الشطر هو النصف، والكعبة بقعة في وسط المسجد. والواجب هو التوجه إلى الكعبة، وهي كانت في نصف المسجد، فحسن أن يقال: * (فول وجهك شطر المسجد) *، يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة. ويدل على صحة ما ذكرناه. أن المصلي خارج المسجد متوجها إلى المسجد، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة، لم تصح صلاته. وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب، لم يكن لذكره فائدة، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة. قال ابن عباس وغيره: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى البيت كله. وقال ابن عمر: إنما وجه هو وأمته حيال ميزاب الكعبة، والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق، وفي حرف عبد الله، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام. والقائلون بأن معنى الشطر: النحو، اختلفوا، فقال ابن عباس؛ البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة، والظاهر أن المقصود بالشطر: النحو والجهة، لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما على من خرج لبعده عن مسامتنها. وفي ذكر المسجد الحرام، دون ذكر الكعبة، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة، لا مراعاة عينها. واستدل مالك من قوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) *، على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، خلافا للثوري والشافعي والحسن بن حي، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده، وخلافا لشريك القاضي، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى موضع حجره. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: إنما قلنا ينظر أمامه، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *.
* (إن كنتم) *: هذا عموم في الأماكن التي يحلها