بالعلم الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب، بذكرالعلم، كقولك: زيد عصاك، والمعنى: أنا أجازيه على ذلك، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي، التقدير: لما علمنا، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف. فهذه كلها تأويلات في قوله: لنعلم، فرارا من حدوث العلم وتجدده، إذ ذلك على الله مستحيل. وكل ما وقع في القرآن، مما يدل على ذلك، أول بما يناسبه من هذه التأويلات. ونعلم هنا متعد إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس: نعلم هنا متعلقة، كما تقول: علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول ب نعلم. وقد رد هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله : * (ممن ينقلب) *، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله: * (يتبع) *، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق ب نعلم، كقولك: علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري: ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير: ليعلم الرسول والمؤمنون. وأتى بلفظ الرسول، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله: * (كنت عليها) *، فكان يكون الكلام من يتبعك، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة. وجاء الخطاب مكتنفا ذكر الرسول مرتين، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة. ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة، أتى بلفظ الرسول، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض. ولما كان التوجه إلى الكعبة توجها إلى المكان الذي ألفه الإنسان، وله إلى ذلك نزوع، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة، فقيل: * (التى كنت عليها) *، فهذه، والله أعلم، حكمة الالتفات هنا. وقوله: * (ينقلب على عقبيه) * كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل. والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه، فلذلك شبه المرتد في الدين به. والمعنى: أنه كان متلبسا بالإيمان، فلما حولت القبلة، ارتاب فعاد إلى الكفر، فهذا انقلاب معنوي، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه. وقوله: * (على عقبيه) * في موضع الحال، أي ناكصا على عقبيه، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه، لم يخل في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الجالة الأولى التي كان عليها، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه، ومشى أدراجه التي تقدمت له، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أولا. قالوا: وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها. فقيل: بالأول، لأنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم. وقال الأكثرون بالقول الثاني، قالوا: لو كان محمد على يقين من أمره، لما تغير رأيه. وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا: مرة هنا ومرة هنا، وهذا أشبه، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة، وقد وصفها الله بالكبر في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) *. وقرأ ابن أبي إسحاق: على عقبيه، بسكون القاف وتسكين عين فعل، اسما كان أو فعلا، لغة تميمية، وقد تقدم ذكر ذلك.
* (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) *: اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله: * (وما جعلنا القبلة) *، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش. وقيل: يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس. ومعنى كبيرة: أي شاقة صعبة، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف