تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٩٤
غيرهم مجازا، فارتفع المجاز بقوله: * (من الناس ما ولاهم) *، أي ما صرفهم، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم)، والمؤمنين عن قبلتهم. أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمنا طويلا، فصحت الإضافة.
وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة. هكذا ذكر بعض المفسرين، وليس ذلك إجماعا، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم. فلما توجه إلى بيت المقدس، قال أهل مكة، زارين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا على حذف مضاف، أي على استقبالها. والاستعلاء هنا مجاز، وحكمته أانهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات. صارت القبلة لهم كالشئ المستعلى عليه، الملازم دائما. وفي وصف القبلة بقوله: * (التى كانوا عليها) *، ما يدل على تمكن استقبالها، وديمومتهم على ذلك. والضمير في قوله: قبلتهم وكانوا، ضمير المؤمنين. وقيل: يحتمل أن يكون الضمير عائدا على السفهاء، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود، وهي إلى المغرب، وقبلة النصارى، وهي إلى المشرق، والعرب لم يكن لهم صلاة، فيتوجهون إلى شيء من الجهات. فلما توجه نحو الكعبة، استنكروا ذلك فقالوا: كيف يتوجه إلى غير هاتين المعروفتين؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس، أكان بوحي متلو؟ أو بأمر من الله غير متلو؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي؟ فاختار بيت المقدس، قاله الربيع؛ أو باجتهاده بغير وحي، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية. أقوال: الأول: عن ابن عباس، روي عنه أنه قال: أول ما نسخ من القرآن القبلة: وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيها إلى بيت المقدس، فقيل: ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وقيل: تسعة، أو عشرة أشهر. وقيل: ثلاثة عشر شهرا. وقيل: من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل، إثر الإسراء، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ثم هاجر في ربيع الأول، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس، إلى رجب من سنة اثنتين. وقيل: إلى جمادى. وقيل: إلى نصف شعبان. وروي أنه صلى الله عليه وسلم) صلى ركعتي الظهر، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسه السنة بالقرآن، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن، واستدل بها أيضا على بطلان قول من يزعم أنه النسخ بداء.
* (قل لله المشرق والمغرب) *: الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم)، وفيه تعليم له صلى الله عليه وسلم) كيف يبطل مقالتهم، ورد عليهم إنكارهم. والمعنى: أن الجهات كلها لله تعالى، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها، وأن تجعل قبلة. وقد تقدم الكلام على قوله: * (لله المشرق والمغرب) *، فأغنى عن الإعادة هنا. وقد شرح المشرق ببيت المقدس، والمغرب بالكعبة، لأن الكعبة غربي بيت المقدس، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها. * (يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *: أي من يشاء هدايته. وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله: * (اهدنا الصراط) *، فأغنى عن إعادته: وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدى بإلى. وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها، فقيل: الصبح، وقيل: الظهر، وقيل: العصر. وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع، ولا قاد نحوها العقل، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا، على عادتنا في ذلك. ومن طلب للوضعيات تعاليل، فأحرى بأن يقل صوابه ويكثر خطؤه. وأما ما نص الشرع على حكته، أو أشار، أو قاد إليه النظر الصحيح، فهو الذي لا معدل عنه، ولا استفادة إلا منه. وقد فسر قوله: * (إلى صراط مستقيم) * بأنه القبلة التي هي الكعبة. والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه، فالكعبة من بعض مشروعاته.
* (وكذالك جعلناكم أمة وسطا) *: الكاف: للتشبيه، وذلك: اسم إشارة
(٥٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 589 590 591 592 593 594 595 596 597 598 599 ... » »»