وقال ابن دريد: الإشهاد أربعة: الملائكة بإثبات أعمال العباد، والأنبياء، وأمة محمد، والجوارح. انتهى. ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة، سمي إدراك البصيرة: مشاهدة وشهودا، وسمي العارف: شاهدا ومشاهدا، ثم سميت الدلالة على الشيء: شهادة عليه، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات. قالوا: وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل بقوله: * (أمة وسطا) *، أي عدولا خيارا. وقال بقية العلماء: العدالة وصف عارض لا يثبت إلاببينة، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور، لتغير أحوال الناس، ولما غلب عليهم في هذا القوت، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص.
* (ويكون الرسول عليكم شهيدا) *: لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وفي شهادته أقوال: أحدها: شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. الثاني: شهادته عليهم بإيمانهم. الثالث: يكون حجة عليهم. الرابع: تزكيته لهم وتعديله إياهم، قاله عطاء، قال: هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين، والرسول شهيد معد مرك لهم. وروي في ذلك حديث. وقد تقدم أيضا ما روى البخاري في ذلك. واللام في قوله: لتكونوا هي، لام كي، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سببا لجعلهم خيارا، أو عدولا ظاهرا. وأما كون شهادة الرسول عليهم سببا لجعلهم خيارا، فظاهر أيضا، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التام لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله: على الناس، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدم على المعمول. وأما في قوله: * (عليكم شهيدا) * فتقدمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيدا أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله: عليكم، فكان قوله: شهيدا، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أولا، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على: لاختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم، فهو مبني على مذهبه: أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان. وتقدم ذكر تعليل جعلهم وسطا بكونهم شهداء، وتأخر التعليل بشهادة الرسول، لأنه كذلك يقع. ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم، ثم يشهد الرسول عليهم، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمة محمد عليهم بالتبليغ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم) فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بصدقهم؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدمة في الزمان، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس. وأتى بلفظ الرسول، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمته. وأتى بجمع فعلاء، الذي هو جمع فعيل وبشهيد، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله: شاهدين، أو إشهادا، أو شاهدا. وقد استدل بقوله: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة، فإن أكثر المفسرين قالوا: معنى شهيدا: مزكيا لكم، قالوا: وعليكم تكون بمعنى: لكم.
* (وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) *: جعل هنا: بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين: أحدهما القبلة، والآخر * (التى كنت عليها) *. والمعنى: وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أولا عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أولا، لأنه كان يصلي أولا إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم