مسجد، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصا، فالعبرة به لا بخصوص السبب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه جرى ذكر النصارى في قوله: * (وقالت النصارى ليست اليهود على شىء) *، وجرى ذكر المشركين في قوله: * (كذالك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) *، وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسبا لذكرها تلي ما قبلها. ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء. وأظلم: أفعل تفضيل، وهو خبر عن من. ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته، وإنما هو بمعنى النفي، كما قال: * (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) *؟ أي ما يهلك. ومعنى هذا: لا أحد أظلم ممن منع. وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن، وهذا أول موارده، وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *. وقال: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) *؟ * (ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها) *؟ إلى غير ذلك من الآيات. ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبرا، ولما كان خبرا توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها، لأنه قال المتأول في هذا: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وقال في أخرى: لا أحد أظلم ممن افترى، وفي أخرى: لا؛ أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته، فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، وكذلك باقيها. فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض. وقال غيره: التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق، لما لم يسبق أحد إلى مثله، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم، سالكا طريقتهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية، أو الافترائية. وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى. وإنما هذا نفي للأظلمية، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق. لو قلت: ما في الدار رجل ظريف، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضا، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية. وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى، وممن ذكر. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر. كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم. لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها، ولم يفتر على الله الكذب، أقل ظلما ممن جمع بينهما، فلا يكون مساويا في الأظلمية، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار، فهم متساوون في الأظلمية، وإن اختلفت طرق الأظلمية. فكلها صائرة إلى الكفر، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة، فنقول: الكافر أظلم من المؤمن، ونقول: لا أحد أظلم من الكافر. ومعناه: أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره. ومن في قوله: ممن منع، موصولة بمعنى الذي. وجوز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. أن يذكر: يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا لمنع، أو مفعولا من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلا من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولا على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجرورا على رأي. وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام