تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٢٩
* (فإذا جاء وعد الاخرة * ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) *، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم) أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجرا حجرا. فلما رأى أن هذا يعارض الآية، إذا جعلناها خبرا لفظا، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جدا، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه، بطلت هذه الأقوال. وأما قوله تعالى: * (فإذا جاء وعد الاخرة) *، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة، وسيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقوله: * (أولائك) *، حمل على معنى من في قوله: * (ومن أظلم) *، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب. أما إذا كانت موصوفة نحو: مررت بمن محسن لك، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها. وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة. وقال بعض الناس في قوله تعالى: * (ومن أظلم) *: الآية، دليل على منع دخول الكافر المسجد، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، وهي مسألة تذكر في علم الفقه، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية.
* (لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *: هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم. أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال، وهو مناسب للوصف الأول، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان. وأما العذاب العظيم في الآخرة، فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *. وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب. ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكما، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي، أو جزية للذمي، لم يحتج إلى وصف. ولما كان العذاب متفاوتا، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن. وقيل: الخزي هو الفتح الإسلامي، كالقسطنطينية وعمورية ورومية، وقيل: جزية الذمي، قاله ابن عباس، وقيل: طردهم عن المسجد الحرام، وقيل: قتل المهدي إياهم إذا خرج، قاله المروزي، وقيل: منعهم من المساجد. قال بعض معاصرينا: إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزيا. أما اليهود والنصارى، فقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم، وإجراء الجزية عليهم، والسيما التي التزموها، وما شرطه عمر عليهم. وأما مشركو العرب، فقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا. وقال الفراء: معناه في آخر الدنيا، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد. قال القشيري: في قوله تعالى: * (ومن أظلم) * الآية، إشارة إلى ظلم من خرب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات، وهي أسرار الموحدين. * (لهم فى الدنيا خزى) *: ذل الحجاب، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات. انتهى، وبعضه ملخص. وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم.
* (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) *: قال الحسن وقتادة: أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاؤوا، فنسخ ذلك. وقال مجاهد والضحاك: معناها إشارة إلى الكعبة، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة. فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس. وقال أبو العالية وابن زيد: نزلت جوابا لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقال ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر، حيث توجهت به دابته. وقيل: جواب لمن قال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ قاله سعيد بن جبير. وقيل: في الصلاة على النجاشي، حيث قالوا: لم يكن يصلي إلى قبلتنا. وقيل: فيمن اشتبهت
(٥٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 524 525 526 527 528 529 530 531 532 533 534 ... » »»