تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٣٠
عليه القبلة في ليلة متغيمة، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة. وقد روي ذلك في حديث عن جابر، أن ذلك وقع لسرية، وعن عامر بن ربيعة، أن ذلك جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في السفر، ولو صح ذلك، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة. وقال النخعي: الآية عامة، أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم. وقيل: نزلت حين صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن البيت.
وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية، وظاهرها التعارض، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها. وقد صنف الواحدي في ذلك كتابا قلما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح. والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو: أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات، ولا من ذكر الله، إذ المشرق والمغرب لله تعالى، فأي جهة أديتم فيها العبادة، فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد. والمعنى: ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما. فيكون على حذف مضاف، أو يكون المعنى: ولله المشرق والمغرب وما بينهما، فيكون على حذف معطوف، أو اقتصر على ذكرهما تشريفا لهما، حيث أضيفا لله، وإن كانت الأشياء كلها لله، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى. وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان.
وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر، والمعنى أن لله تولى إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها، فيكونان، إذ ذاك، بمعنى الشروق والغروب. ويبعد هذا القول قوله بعد: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) *. وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية. وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم. وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما. ومعنى التولية: الاستقبال بالوجوه. وقيل: معناها الاستدبار من قولك: وليت عن فلان إذا استدبرته، فيكون التقدير: فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله. وقيل: ليست في الصلاة، بل هو خطاب للذين يخربون المساجد، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم. ويقويه قراءة الحسن: فأينما تولوا، جعله للغائب، فجرى على قوله: * (لهم فى الدنيا خزى) *، وعلى قوله: * (وقالوا اتخذ الله ولدا) *، فجرت الضمائر على نسق واحد. قال الزمخشري: ففي أي مكان فعلتم التولية، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام * ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) *، انتهى. فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة، وهو قول حسن. وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب) * مسائل موضوعها علم الفقه منها: من صلى في ظلمة مجتهدا إلى جهة، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضا لمرض أو نفلا، ومسألة الصلاة على الميت الغائب، إذا قلنا نزلت في النجاشي، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل، وذكر الخلاف فيها، وبعض دلائلها وموضوعها، كما ذكرناه هو علم الفقه. * (فثم وجه الله) *، هذا جواب الشرط، وهي جملة ابتدائية، فقيل: معناه فثم قبلة الله، فيكون الوجه بمعنى الجهة، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل. وقيل: الوجه هنا صلة، والمعنى فثم الله أي علمه وحكمه. وروي عن ابن عباس ومقاتل: أو عبر عن الذات بالوجه، كقوله تعالى: * (ويبقى وجه ربك) *، * (كل شىء هالك إلا وجهه) *، وقيل: المعنى العمل لله، قاله الفراء، قال:
* أستغفر الله ذنبا لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل * وقيل: يحتمل أن يراد بالوجه هنا: الجاه، كما يقال: فلان وجه القوم، أي موضع شرفهم، ولفلان وجه عند الناس:
(٥٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 525 526 527 528 529 530 531 532 533 534 535 ... » »»