تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٣٢
للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها. ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر؟ كما مثلناه، وكقوله: * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله) *، * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله) *، وقال:
* ليت شعري وأين مني ليت * إن ليتا وإن لوا عناء * * (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) *: نزلت في اليهود، إذ قالوا: * (عزير ابن الله) *، أو في النصارى، إذ قالوا: * (المسيح ابن الله) *، أو في المشركين، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، أو في النصارى والمشركين، أقوال أربعة، والأخير قاله الزجاج. ولاختلافهم في سبب النزول، اختلفوا في الضمير في وقالوا، على من يعود؟ فقيل: هو عائد على الجميع من غير تخصيص. فإن كلا منهم قد جعل لله ولدا، قاله ابن إسحاق، والجمهور على قراءة: وقالوا بالواو، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها. وقيل: هو عطف على قوله: * (وسعى فى خرابها) *، فيكون معطوفا على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيد جدا، ينزه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما: قالوا بغي واو، ويكون على استئناف الكلام، أو ملحوظا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسي: وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام. تقدم أن اتخذ: افتعل من الأخذ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله: * (اتخذت بيتا) *، قالوا: معناه صنعت وعملت، وإلى اثنين فتكون بمعنى: صير. وكلا الوجهين يحتمل هنا. وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد، لأن الولد يكون من جنس الوالد. فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع، استحال ذلك، لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث، قديم، لا أولية لقدمه، وما عمله محدث، فاستحال أن يكون ولد له. وإن جعلت اتخذ بمعنى صير، استحال أيضا، لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير، فقد استحال ذلك. وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير، كان أحد المفعولين محذوفا، التقدير: وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولدا. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد، قال تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا) *، * (ما اتخذ الله من ولد) *، * (وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *. وقال القشيري: أتى بالولد، وهو إحدى الذات، لا جزاء لذاته، ولا تجوز الشهوة في صفاته. انتهى.
ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم. وكان ذكر التنزيه أسبق، لأن فيه ردعا لمدعي ذلك، وأنهم ادعوا أمرا تنزه الله عنه وتقدس، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال: * (بل له ما في * السماوات والارض) *: أي جميع ذلك مملوك له، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولدا لله. والولادة تنافي الملكية، لأن الوالد لا يملك ولده. وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والد أو ولده أو أحدا من ذوي رحمة، وموضوعها علم الفقه. ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى، ذكر أنهم كلهم قانتون له، أي مطيعون خاضعون له. وهذه عادة المملوك، أن يكون طائعا لمالكه، ممتثلا لما يريده منه. واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد، إذ الولد يكون من جنس الوالد. وأتى بلفظ ما في قوله: * (بل له ما في * السماوات والارض) *، وإن كانت لما لا يعقل، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما. ولذلك قال سيبويه: وأما ما، فإنها مبهمة تقع على كل شيء، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون، التي هي حقيقة فيما
(٥٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 527 528 529 530 531 532 533 534 535 536 537 ... » »»