تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٩٣
عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهدا. وقرئ: عهدوا، فيكون عهدا مصدرا، وقد تقدم. ما المراد بالعهد في سبب النزول، فأغنى عن إعادته. * (نبذه) *: طرحه، أو نقضه، أو ترك العمل به، أو اعتزله، أو رماه. أقوال خمسة، وهي متقاربة المعنى. ونسبة النبذ إلى العهد مجاز، لأن العهد معنى، والنبذ حقيقة، إنما هو في المتجسدات: * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم) *، * (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) *، فنبذ خاتمه، فنبذ الناس خواتيمهم، * (لنبذ بالعراء) *.
* (فريق منهم) *: الفريق اسم جنس لا واحد له، يقع على القليل والكثير. وقرأ عبد الله: نقضه فريق منهم، وهي قراءة تخالف سواد المصحف، فالأولى حملها على التفسير.
* (بل أكثرهم لا يؤمنون) *: يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، وهو الظاهر، فيكون أكثرهم مبتدأ، ولا يؤمنون خبر عنه، والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه الضمير في عاهدوا، وهم اليهود. ومعنى هذا الإضراب هو: انتقال من خبر إلى خبر، ويكون الأكثر على هذا واقعا على ما يقع عليه الفريق، كأنه أعم، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن، فكأنه قال: بل الفريق الذي نبذ العهد، وغير ذلك الفريق، محكوم عليه بأنه لا يؤمن. وقيل: يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات، ويكون أكثرهم معطوفا على فريق، أي نبذه فريق منهم، بل أكثرهم، يكون قوله: لا يؤمنون، جملة حالية، العامل فيها نبذه، وصاحب الحال هو أكثرهم. ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير، وأسند النبذ إليه، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلا، فبين أن النابذين هم الأكثر، وصار ذكر الأكثر دليلا على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم، فكان هذا إضرابا عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل. والضمير في أكثرهم عائد على الفريق، أو على جميع بني إسرائيل. وعلى كلا الاحتمالين، ذكر الأكثر محكوما عليه بالنبذ، أو بعدم الإيمان، لأن بعضهم آمن، ومن آمن فما نبذ العهد. وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله، أو نقض عهد الله الذي أخذه على عباده في كتبه، فهو كافر. * (ولما جاءهم رسول) *: الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل، أو على علمائهم، والرسول، محمد صلى الله عليه وسلم)، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أو معناه الرسالة، فيكون مصدرا، كما فسروا بذلك قوله:
* لقد كذب الواشون ما بحت عنده * بليلي ولا أرسلتهم برسول * أي برسالة، أقوال ثلاثة. والظاهر الأول، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم). ألا ترى إلى قوله: * (قل) * قل، و * (فإنه نزله على قلبك) *، * (ولقد أنزلنا إليك) *، فصار ذلك كالالتفات، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب، ووصف بقوله: * (من عند الله مصدق) *: تفخيما لشأنه، إذ الرسول على قدر المرسل. ثم وصف أيضا بكونه مصدقا لما معهم، قالوا: وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو تصديقه: إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله، وأنه المنزل على موسى، أو تصديقه: إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة، أقوال أربعة. وإذا فسر بعيسى، فتصديقه هو بالتوراة، وإذا فسر بالرسالة، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز. وقرأ ابن أبي عبلة: مصدقا بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله: * (من عند الله) *. * (لما معهم) *: هو التوراة. وقيل: جميع ما أنزل إليهم من الكتب، كزبور داود، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها.
* (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) *: الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثان لأتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدم القول في ذلك. * (كتاب الله) *: هو مفعول بنبذ. فقيل: كتاب الله هو التوراة. ومعنى نبذهم له: اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع. وقيل: الإنجيل، ونبذهم له: اطراحه بالكلية. وقيل: القرآن، وهذا أظهر، إذ الكلام مع الرسول. فصار المعنى: أنه يصدق ما بين أيديهم من التوراة، وهم بالعكس، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه. وأضاف الكتاب إلى الله تعظيما له، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق، فصار ذلك غاية في ذمهم
(٤٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 488 489 490 491 492 493 494 495 496 497 498 ... » »»