تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٩١
لا أرى الموت يسبق الموت شيئا وهذه الجملة الواقعة خبرا للشرط، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو: الكافرين، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي، ولينص على علة العداوة، وهي الكفر، إذ من عادى من تقدم ذكره، أو واحدا منهم، فهو كافر. أو يراد بالكافرين العموم، فيكون الرابط العموم، إذ الكفر يكون بأنواع، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم، فيحصل الربط بذلك. وقال الزمخشري: عدو للكافرين، أراد عدو لهم، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف. والمعنى: من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب. انتهى كلامه. وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم. ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير، وأنه لم يلحظ فيه العموم، وقال ابن عطية: وجاءت العبارة بعموم الكافرين، لأن عود الضمير على من يشكل، سواء أفردته أو جمعته، ولو لم يبال بالإشكال. وقلنا: المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم. ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل. وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله: ذلك عدونا، يعني جبريل، فنزلت على لسان عمر. قال ابن عطية: وهذا الخبر ضعيف.
* (ولقد أنزلنا إليك ءايات بينات) *: سبب نزولها، فيما ذكر الطبراني، أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم): ما جئت بآية بينة، فنزلت. وقال الزمخشري: قال ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها، فنزلت انتهى. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه لما ذكر تعالى جملا من قبائح اليهود وذمهم على ذلك، وكان فيما ذكر من ذلك معاداتهم لجبريل، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه السلام أنزل عليه آيات بينات، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق، وذلك لوضوحها. والآيات البينات، أي القرآن، أو المعجزات المقرونة بالتحدي، أو الأخبار عما خفي وأخفي في الكتب السالفة، أو الشرائع، أو الفرائض، أو مجموع كل ما تقدم، أقوال خمسة. والظاهر مطلق ما يدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها، وعبر عن وصولها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالإنزال، لأن ذلك كان من علو إلى ما دونه.
وما يكفر بها إلا الفاسقون) *: المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن: إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله: بينات لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقع فيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه، والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر، لأن الفسق: خروج الإنسان عما حد له. وقد تقدم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلا الفاسقون: استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب
(٤٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 496 ... » »»