تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٧٨
وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله: * (وهم بالاخرة هم يوقنون) *. ومعنى: عند الله، أي في حكم الله، كقوله تعالى: * (فأولئك عند الله) * أي في حكمه * (هم الفاسقون) *. وقيل: المراد بالعندية هنا: المكانة والمرتبة والشرف، لا المكان. ومعنى خالصة: أي مختصة بكم، لاحظ في نعيمها لغيركم. واختلفوا في إعراب خالصة، فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية، إذ قالا: ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال، وعند الله خبر كان. وقيل: انتصاب خالصة على أنه خبر كان، فجوز في لكم أن يتعلق بكانت، لأن كان يتعلق بها حرف الجر، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم، أعني نحو قولهم: * (أحللنا لك) * إذ تقديره: لك أدعو.
* (من دون الناس) *: متعلق بخالصة، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص، وقطع الشركة. تقول: هذا ولي دونك، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب. وفي غير هذا المكان يأتي لمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار. والمراد بالناس: الجنس، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله: خالصة. وقيل: المراد النبي صلى الله عليه وسلم) والمسلمون. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن عباس: قالوا، ويطلق الناس، ويراد به الرجل الواحد، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة. * (فتمنوا الموت) *: أي سلوه باللسان فقط، وإن لم يكن بالقلب، قاله ابن عباس. أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم، قاله قوم. أو فسلوه بقلوبكم على أردإ الحزبين من المؤمنين أومنهم. وروي عن ابن عباس وغيره، وقرأ الجمهور: فتمنوا الموت، بضم الواو، وهي اللغة المشهورة في مثل: أخشوا القوم. ويجوز الكسر تشبيها لهذه الواو بواو: ولو استطعنا، كما شبهوا واو لو بواو أخشوا، فضموا، فقالوا: لو استطعنا. وقرأ ابن أبي إسحاق: فتمنوا الموت بالكسر، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد، عن أبي عمرو، أنه قرأ: فتمنوا الموت، بفتح الواو، وحركها بالفتح طلبا للتخفيف، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان. وحكى أيضا عن أبي عمرو: واختلاس ضمة الواو.
* (وإن كنتم * صادقين) * في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم. وجواب الشرط محذوف، أي فتمنوا الموت. وعلق تمنيهم على شرط مفقود، وهو كونهم صادقين، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس، فلا يقع التمني: والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة، اختار أن ينتقل إليها، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار، وأن يصل إلى دار القرار. كما روي عمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالجنة، كعثمان، وعلي، وعمار، وحذيفة، أنهم كانوا يختارون الموت، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة. وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم): (ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل). لما علم من فضل الشهادة. وقال، لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة: (يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل). وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعن عمار، لما كان بصفين قال: غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه. وعن علي أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني لا يبالي أبوك، أعلى الموت سقط، أم عليه سقط الموت. وكان عبد الله بن رواحة ينشد، وهو يقاتل الروم:
* يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابها *
(٤٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 473 474 475 476 477 478 479 480 481 482 483 ... » »»