ذلك، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها، من الافتراء على الله، وتحريف كتابه، وغير ذلك. وقال الماتريدي ما مخلصه: أن المؤمن يقول: إن الجنة له، ومع ذلك ليس بتمني الموت. وأجاب: بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود، لأن جميع المؤمنين، غير الأنبياء، لا يزول عنهم خوف الخاتمة. والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه. فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت. ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه. وذكروا في ما من قوله: * (بما قدمت) *، أنها تكون مصدرية، والظاهر أنها موصول، والعائد محذوف، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازا، والمعنى بما قدموه، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفا في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن: * (ذالك بما قدمت يداك) *، * (بما قدمت أيديكم) *، * (فبما كسبت أيديكم) *. وقيل: المراد اليد حقيقة هنا، والذي قدمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان ذلك بكتابة أيديهم.
* (والله عليم بالظالمين) *: هذه جملة خبرية، ومعناها: التهديد والوعيد، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم. فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد. وقيل: معناه مجازيهم على ظلمهم، فكنى بالعلم عن الجزاء، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية، والألف واللام في الظالمين للعهد، فتختص باليهود الذين تقدم ذكرهم، أو للجنس، فتعم كل ظالم. وإنما ذكر الظالمين، لأن الظلم هو تجاوز ما حد الله، ولا شيء أبلغ في التعدي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها، وانفراده بذلك دون الناس.
* (ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة) *: الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم). ووجد هنا متعدية إلى مفعولين: أحدهما الضمير، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدية إلى اثنين، كقوله تعالى: * (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) *. وكونها هنا تعدت إلى مفعولين، هو قول من وفقنا على كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب، ويكون انتصاب أحرص على الحال، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة، وهو قال الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل، وهي مؤولة. بمعنى من، وقد أضيف إلى معرفة، فيجوز فيها الوجهان: أحدهما: أن يفرد مذكره، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع، ومذكر ومؤنث. والثاني: أن يطابق ما قبلها. فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة، لكان أحارص الناس، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله: أكابر مجرميها، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد، وليس بصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة، كهذين الموضعين، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل، وتأولوا ما ورد مما يشبهه، وشذ نحو قوله:
يا رب موسى أظلمي وأظلمه يريد: أظلمنا حيث لم يضل أظلم إلى ما هو بعضه. والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، أو على جميع اليهود، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة. وأتي بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدة طلبهم للبقاء ودوام الحياة. والناس: الألف واللام للجنس فتعم، أو للعهد. إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس، أو مشركي العرب، لأن أولئك لا يوقنون ببعث، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا، أو بؤسها، ولذلك قال بعضهم:
* تمتع من الدنيا فإنك فان * من النشوات والنسا الحسان *