تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٧٧
إذا شددت حبلا في عنقه. وقيل: هو من الشرب حقيقة، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا، فشرب جميعهم. فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، وهذا قول يرده في قوله: * (فى قلوبهم) *. وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن. وبناؤه للمفعول في قوله: وأشربوا، دليل على أن ذلك فعل بهم، ولا يفعله إلا الله تعالى. وقالت المعتزلة: جاء مبنيا للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته، كما يقال: معجب برأيه، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجن دعوهم إليه، ولما كان الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، نسب ذلك إلى المحبة، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال. * (بكفرهم) *: الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عباده العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوبا بكفرهم، فيكون ذلك كفرا على كفر.
* (قل) * يا محمد، أو قل يا من يجالهم. * (بئسما * ما * يأمركم به إيمانكم) *: تقدم الكلام في بئس، وفي المذاهب في ما، فأغنى عن إعادته. وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: بهو إيمانكم، بضم الهاء ووصلها بواو، وهي لغة، والضم في الأصل، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم: * (نؤمن بما أنزل علينا) *، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم، كما قال أصحاب شعيب: أصلواتك تأمرك أن نترك؟ وقيل: ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم، وهو إبليس. وقيل: ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل، وأضاف: الإيمان إليهم لكونه إيمانا غير صحيح، ولذلك لم يقل الإيمان، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله. والمخصوص بالذم محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة، فالتقدير: بئس شيئا يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئا شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذم المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئا ما يأمركم، أي الذي يأمركم، فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعا من الإعراب.
* (إن كنتم مؤمنين) *، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية. قال الزمخشري: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: وقد يأتي الشرط، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله عن عيسى عليه السلام: * (إن كنت قلته فقد علمته) *، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك * (إن كنتم مؤمنين) *، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه أقام حجة لقياس بين. انتهى كلامه، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين، فلا تقتلوا الأنبياء، ولا تكذبوا الرسل، ولا تكتموا الحق. وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى.
* (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة) *: نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عندما قالت اليهود: إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزول هاتين الآيتين قولهم: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) *، و * (نحن أبناء الله) *، و * (لن تمسنا النار) *، الآيات، وروي مثله عن قتادة. والضمير في قل، إما للنبي صلى الله عليه وسلم)، وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومن غيره. وفسروا الدار الآخرة بالجنة، قالوا: وذلك معهود في إطلاقها على الجنة. قال تعالى: * (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا) *. ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة، * (وللدار الاخرة خير للذين يتقون) *. والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها، لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا. وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا، أو هي آخر ما يسكن
(٤٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 472 473 474 475 476 477 478 479 480 481 482 ... » »»