تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٧٩
والروم روم قد دنا عذابها وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له: نقاتل عنك؟ فقال لهم: لا، وكان له قريب من ألف عبد، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم، فقال: من أغمد سيفه فهو حر. فصبر حتى قتل. وأما سعيد، فإن الموكلين به، لما طلبه الحجاج، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به، قالوا: لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح، قالوا له: طلبك ليقتلك، فاذهب حيث شئت، ونحن نكون فداء. فقال: لا والله، إني سألت ربي الشهادة، وقد رزقنيها، والله لا برحت. وروي عن النبي / صلى الله عليه وسلم): (لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي). وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم) ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله.
* (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) *: هذا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) *، وظاهره أن من ادعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله: * (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة) *، لا يمكن أن يتمنى الموت أبدا، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادعى فيه أنه يقتضي النفي على التأييد، فيكون قوله: أبدا، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد. وأما من ادعى أنه بمعنى لا، فيكون أبدا إذ ذاك مفيدا لاستغراق الأزمان. ويعني بالأبد هنا: ما يستقبل من زمان أعمارهم.
وفي المنتخب ما نصه: وإنما قال هنا: * (ولن يتمنوه) *، وفي الجمعة * (ولا يتمنونه) *، لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية، لأن الثانية تراد لحصول الأولى، ولن أبلغ في النفي من لا، فجعلها النفي الأعظم. انتهى كلامه. قال المهدوي في (كتاب التحصيل) من تأليفه: وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم)، ثم ارتفعت بوفاته صلى الله عليه وسلم). ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث: دلالة صدقي، أن أحرك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرك يده، فيفعل ذلك، فيكون دليلا على صدقه، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك. انتهى كلامه، وقد قاله غيره من المفسرين.
قال ابن عطية: والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمني الموت، إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة، انتهى كلامه. وكلا القولين، أعني قول المهدوي وابن عطية، مخالف لظاهر القرآن، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم، كما بينا. وهل امتناعهم من تمني الموت، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمرا وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيبا له، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأنه لا يقول على الله إلا الحق؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن ذلك معلل * (بما قدمت أيديهم) *. والذي قدمته أيديهم: تكذيبهم الأنبياء، وقتلهم إياهم، وقولهم: * (أرنا الله جهرة) *، وقولهم: * (اجعل لنا إلاها) *، وقولهم: * (فاذهب أنت وربك) *، واعتداؤهم في السبت، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم. وهذا التمني الذي طلب منهم، ونفي عنهم، لم يقع أصلا منهم، إذ لو وقع لنقل، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله.
وقد تقدمت الأقوال في تفسير التمني، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي، لأنه لا يطلع عليه، فلا يتحدى به، وإنما عنى به القول اللساني كقولك: ليت الأمر يكون. ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك: تمني؟ وتسمى ليت كلمة تمن، ولم ينقل أيضا أنهم قالوا: تمنينا ذلك بقلوبنا، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم، كونهم لا يصدقون في
(٤٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 474 475 476 477 478 479 480 481 482 483 484 ... » »»