تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٧٢
المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده، قال تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) *. وقال أبو القاسم الراغب: ما ملخصه الاستفتاح، طلب الفتح، وهو ضربان: إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب، ومنه * (إنا فتحنا لك) *، فعسى أن يأتي بالفتح. ودنيوي، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية، ومنه * (فتحنا عليهم أبواب كل شىء) *. فمعنى يستفتحون: أي يعلمون خبره من الناس مرة، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة. وقيل: بطلبون من الله بذكره الظفر. وقيل: كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى الله عليه وسلم) على عبدة الأوثان. وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى. وظاهر قوله: ما عرفوا أنه الكتاب، لأنه أتى بلفظ ما، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى الله عليه وسلم). فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل، ويجوز أن يكون المعنى: ما عرفوه من الحق، فيندرج فيه معرفة نبوته وشريعته وكتابه، وما تضمنه.
* (فلعنة الله على الكافرين) *: لما كان الكتاب جائيا من عند الله إليهم، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به. قابلهم الله بالاستهانة والطرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة. * (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله) *؟ * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *. ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم، فجللهم بها، ثم نبه على علة اللعنة وسببها، وهي الكفر، كما قال قبل: * (بل لعنهم الله بكفرهم) *، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى، فتكون الألف واللام للعهد، أو تكون للعموم، فيكون هؤلاء فردا من أفراد العموم. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون للجنس، ويكون فيه دخولا أوليا. ونعني بالجنس العموم، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولا أوليا ليس بشيء، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد، فهي دلالة متساوية. وإذا كانت دلالة متساوية، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء.
* (بئسما اشتروا به أنفسهم) *: تقدم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفراء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفراء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعا من الإعراب. واختلف، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفا، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئا شيء اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئا الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف
(٤٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 467 468 469 470 471 472 473 474 475 476 477 ... » »»