هذا القول لابن عباس، قاله ابن عطية، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم) لحسان بن ثابت (أهج قريشا وروح القدس معك)، ومرة قال له؛ (وجبريل معك). انتهى كلامه. قالوا: ويقوي ذلك قوله تعالى: * (إذ أيدتك بروح القدس) *. وقال حسان:
* وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء * وتسمية جبريل بذلك، لأن الغالب على جسمه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة، أو لأنه يحيا به الدين، كما يحيا البدن بالروح، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي، أو لتكوينه روحا من غير ولادة. وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما السلام لإظهار حجته وأمر دينه، أو لدفع اليهود عنه، إذ أرادوا قتله، أو في جميع أحواله. واختار الزمخشري أن معناه: بالروح المقدسة، قال: كما يقال حاتم الجود، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: وروح منه، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. انتهى كلامه. وقد تقدم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة. وقال مجاهد والربيع: القدس من أسماء الله تعالى، كالقدوس. قالوا: وإطلاق الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز، لأن الروح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك، إلا أن كلا منها أطلق الروح عليه على سبيل التشبيه، من حيث إن الروح سبب للحياة، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض. والمشابهة بين جبريل والروح أتم، ولأن هذه التسمية فيه أظهر، ولأن المراد من أيدناه: قويناه وأعناه، وإسنادها إلى جبريل حقيقة، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز. ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، لأنه هو الذي بشر مريم بولادته، وتولد عيسى بنفخه، ورباه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حيث صعد إلى السماء.
* (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) *: الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى: * (كلما رزقوا منها) *، فأغنى عن إعادته. والنصاب لها قولها: * (استكبرتم) *. والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاما لجميع بني إسرائيل، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشك والارتياب فيما أتوهم به، أو يكون عائدا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) من أبنائهم، لأنهم راضون بفعلهم، والراضي كالفاعل. وقد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيما جاء به، وسقوه السم ليقتلوه، وسحروه. وبما: متعلق بقوله: جاءكم، وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا تهواه. وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق، ومنه هذه الآية. وأسند الهوى إلى النفس، ولم يسند إلى ضمير المخاطب، فكان يكون بما لا تهوون إشعارا بأن النفس يسند إليها غالبا الأفعال السيئة، * (إن النفس لامارة بالسوء) *، * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) *، * (قال بل سولت لكم أنفسكم) *. استكبرتم: استفعل هنا: بمعنى تفعل، وهو أحد معاني استفعل. وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس. والمعنى قيل: استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسول. أو استبعادا للرسالة، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقصائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وإن ذلك كان يتكرر منهم