تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٧١
ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى: فإيمانا قليلا يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) *. وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلا ما تنبت، وأنهم يريدون لا تثبت شيئا، فإنما ذلك لأن قليلا انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلا إنباتها، أي لا تنبت شيئا، وليست ما زائدة، وقليلا نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلا، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلا، لا يدل على نفي الإنبات رأسا، وكذلك لو قلنا: ضربت ضربا قليلا، لم يكن معناه ما ضربت أصلا.
* (ولما جاءهم) *: الضمير عائد على اليهود، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيرا، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم. * (كتاب) *: هو القرآن، وإسناد المجيء إليه مجاز. * (من عند الله) *: في موضع الصفة، وصفه بمن عند الله جدير أن يقبل، ويتبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم. * (مصدق) *: صفة ثانية، وقدمت الأولى عليها، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله. لا يقال: إنه يحتمل أن يكون * (من عند الله) * متعلقا بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبي مصدقا، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة. * (لما معهم) *: هو التوراة والإنجيل، وتصديقه إما بكونهما من عند الله، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته.
* (وكانوا) *: يجوز أن يكون معطوفا على جاءهم، فيكون جواب لما مرتبا على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب مرتبا على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا ليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولا حالا لأنه قدر جواب لما محذوفا قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما. * (من قبل) *: أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة.
* (يستفتحون) *: أي يستحكمون، أو يستعلمون، أو يستنصرون، أقوال ثلاثة. يقولون، إذا دهمهم العدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة. واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدره نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه، وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: * (فلما جاءهم * جواب * لما * الاولى * وكفروا * جواب * هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف) *. قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلك تقريرا للذنب وتأكيدا له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن كون الجواب محذوفا لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: * (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) * كذبوه، ويكون التكذيب حاصلا بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روية، بل بادروا إلى تكذيبه. ثم قال تعالى: * (وكانوا من قبل يستفتحون) *، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث قد قرب وقت بعثه، فكانوا يخبرون بذلك.
* (فلما جاءهم ما عرفوا) *: وما سبق لهم تعريفه للمشركين. * (كفروا به) *: ستروه وجحدوه، وهذا أبلغ في ذمهم، إذ يكون الشيء المعورف لهم،
(٤٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 476 ... » »»