تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٧٠
وكانوا يدفعون بغير ذلك، وأسباب الدفع كثيرة. وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم، أقاموا العلم مقام شيء مجسد، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفا له، ليستدل بالمحسوس على المعقول. ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم، فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته، قاله ابن عباس وقتادة والسدي. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبنا غلف، أي مملوءة علما، فلا تسع شيئا، ولا تحتاج إلى علم غيره، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها وقوتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره. وقيل: المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه.
* (بل لعنهم الله بكفرهم) *: بل: للإشراب، وليس إضرابا عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم: إن قلوبهم غلف، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه. ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر. * (فقليلا ما يؤمنون) *: انتصاب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيمانا قليلا يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزمانا قليلا يؤمنون، لقوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين) *. وجوزوا أيضا انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدي إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوزوا أيضا أن يكون حالا من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعا قليلا يؤمنون، أي المؤمن منهم قليل، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة، وملخصه: أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر، أو للزمان، أو للمؤمن به، أو للفاعل. فبالنسبة إلى المصدر: تكون القلة بحسب متعلقه، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة. وبالنسبة إلى الزمان: تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه / صلى الله عليه وسلم)، قليلا، وهو زمان الاستفتاح، ثم كفروا بعد ذلك. وبالنسبة إلى المؤمن به: تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه، إذ هم مجسمون، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة. وبالنسبة للفاعل: تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلا. وقال الواقدي: المعنى أي لا قليلا ولا كثيرا، يقال قل ما يفعل، أي ما يفعل أصلا. وقال ابن الأنباري: إن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا. وقال المهدوي: مذهب قتادة أن المعنى: فقليل منهم من يؤمن، وأنكره النحويون وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم، وما ذهبوا إليه من أن قليلا يراد به النفي صحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: * (فقليلا ما يؤمنون) *، لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: قمت قليلا، أي قياما قليلا. ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلا منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية. وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقرر هذا، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح. وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة، وإنكار النحويين ذلك، وقولهم: لو كان كذلك للزم رفع قليل. فقول قتادة صحيح، ولا يلزم ما ذكره النحويون، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه، ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك. وإنما انتصاب قليلا عنده على الحال من الضمير في يؤمنون، والمعنى عنده: فيؤمنون قوما قليلا، أي في حالة قلة. وهذا معناه: فقليل منهم من يؤمن. وما في قوله: ما يؤمنون، زائدة مؤكدة، دخلت بين المعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم
(٤٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 465 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 ... » »»