تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣١٦
لأنه ليس كلهم يعادي كلهم، بل البعض يعادي البعض. وإن كان معهما إبليس أو الحية، كما قاله مقاتل، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم، بل كلهم أعداء لكل بني آدم. ولكن يتحقيق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئا واحدا وجزئوا أجزاء، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير: كل جنس منكم معاد للجنس المباين له.
وقال الزجاج: إبليس عدو للمؤمنين وهم أعداؤه. وقيل معناه: عداوة نفس الإنسان له وجوارحه، وهذا فيه بعد، وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالا أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذا، خلافا للفراء ومن واقفه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذا. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخبارا من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأمورا به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكا كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوبا بالحال فيكون مأمورا بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك، لأن الفعل إذا كان مأمورا به من يسند إليه في حال من أحواله، لم تكن تلك الحال مأمورا بها، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية. فلو كانت مأمورا بها إذا كان العامل فيها امرا، فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، ولا يمكن خلافه، لم يكن ذلك القيد مأمورا به، لأنه ليس داخلا في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع، قل يلزم أن يكون الله أمر بها، وهذه الحال من الأحوال اللازمة. وقوله: لبعض متعلق بقوله عدو، واللام مقوية لوصول عدو إليه، وأفرد عدو على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدو حالة الإفراد.
* (ولكم فى الارض مستقر) *: مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز * (فى الارض) * أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبرا، ولكم متعلق بمستقر لما ذكرناه، أو في موضع الحال من
(٣١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 311 312 313 314 315 316 317 318 319 320 321 ... » »»