الرحيم) *، قوي التأكيد بتأكيد آخر، وهو لفظه: * (هو) *. وقد ذكرنا فائدته في قوله: * (وأولائك هم المفلحون) *. وبولغ أيضا في الصفتين بعده، فجاء التواب: على وزن فعال، والرحيم: على وزن فعيل، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة. وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرجوع إلى الطاعة، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه. والتواب من أسمائه تعالى، وهو الكثير القبول لتوبة العبد، أو الكثير الإعانة عليها. وقد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفا ومنكرا، ووصف به تعالى نفسه، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزا، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد، وذلك لاختلاف صلتيهما. ألا ترى: فتاب عليه، وتوبوا إلى الله؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه، ومن العبد هي الرجوع إلى طاعته تعالى، لطلب ثواب، أو خشية عقاب، أو رفع درجات. وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه، ولحسن ختم الفاصلة بقوله: * (الرحيم) *. وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها، فأغنى ذلك عن إعادته.
* (قلنا) *، كرر القول، إما على سبيل التأكيد المحض، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة، فكرر تنبيها على ذلك، أو لاختلاف متعلقيهما، لأن الأول علق به العداوة، والثاني علق بإتيان الهدى. وأما لا على سبيل التأكيد، بل هما هبوطان حقيقة، الأول من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول: * (عدو ولكم فى الارض مستقر) *، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني، فكان ينبغي الاستقرار يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما.
* (جميعا) *: حال من الضمير في اهبطوا، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعا وأنها تقتضي التعميم في الحم، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى: * (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا) *، فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط. وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا، فجعله نعتا لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعا ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال: أولا وجميعا حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالا من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولا، فكيف يقدر ثانيا؟ كأنه قال: هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا. فكلامه أخيرا يعارض حكمه أولا، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالا حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضا في زعمه أن التقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعا، فجعل ثم حالا محذوفة لدلالة جميعا عليها، وعاملا محذوفا لدلالة اهبطوا عليه. ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي فقلنا: إما يأتينكم.
وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط، وعلى تقدير أن يكون هبوطا ثانيا، فقيل يخص آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخصا بخطاب الجمع تشريفا لهما. وقيل: يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن: * (فإما ترين) *، * (وإما ينزغنك) *، * (فإما نذهبن) *. قال أبو العباس المهدوي: إن: هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيها بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو: والله