قلت: والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة: " رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين " ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلى من الغد لقوله: " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره، لان الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده، فأفشى عليه ف " قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الإسرائيلي على موسى، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدرى من قتله، فلما علم فرعون بذلك، وجه في طلب موسى ليقتله، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق، جاء رجل يسعى ف " قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك " الآية. فخرج كما أخبر الله.
فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث، فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب.
قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) تقدم في " طه " (1) القول فيه. (في تسع آيات) قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي: المعنى " ألق عصاك " " وأدخل يدك في جيبك " فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيري معناه: كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. ف " في " بمعنى " من " لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن (2) من كان آخر عهده * ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال