تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٢٥١
الآية الثانية: في شرف العبودية: قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (الإسراء: 1) ولولا أن العبودية أشرف المقامات، وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج، ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وأيضا بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات، وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات، واللائق بالعبد والانعزال عن التصرفات، وأيضا العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته، والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة، وشتان ما بينهما.
الآية الثالثة: في شرف العبودية: أن عيسى أول ما نطق قال: * (إني عبد الله) * (مريم: 30) وصار ذكره لهذه الكلمة سببا لطهارة أمه، ولبراءة وجوده عن الطعن، وصار مفتاحا لكل الخيرات، ودافعا لكل الآفات، وأيضا لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة، كما قال تعالى: * (ورافعك إلي) *، (آل عمران: 55) والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة، والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروما عن الجنة.
الآية الرابعة: قوله تعالى لموسى عليه السلام: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) * (طه: 14 أمره بعد التوحيد بالعبودية، لأن التوحيد أصل، والعبودية فرع، والتوحيد شجرة؛ والعبودية ثمرة، ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر، فهذه الآيات دالة على شرف العبودية.
وأما المعقول فظاهر، وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته، فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلا عن كمالات الوجود، فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية، فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية، فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات، وعنوان السعادات، ومطلع الدرجات، وينبوع الكرامات، فلهذا السبب قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، وكان علي كرم الله وجهه يقول: (كفي بي فخرا أن أكون لك عبدا، وكفي بي شرفا أن تكون لي ربا، اللهم إني وجدتك إلها كما أردت فاجعلني عبدا كما أردت).
الفائدة السادسة: اعلم أن المقامات محصورة في مقامين: معرفة الربوبية، ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله: * (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) * فكون العبد
(٢٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 246 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 ... » »»