النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء، وحينئذ يكون غرقا في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه، وكل من كان كذلك كان أبدا في أعلى مراتب السعادات، أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلى فكان غرقا في كل الأوقات في الاشتغال بغير الله، فكان أبدا في الشقاوة، لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفا من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلي بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال، ولهذا التحقيق قال لأمة موسى: * (اذكروا نعمتي) * (البقرة: 40)، وقال لأمة محمد عليه السلام: * (اذكروني أذكركم) * (البقرة: 152)، إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقا في مشاهدة نور جلال إياك، ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقرا في عين الفردوس، كما قال تعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا. وسابعها: لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره، لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم ولا يعبدون غير الله. وثامنها: أن هذه النون نون العظمة، فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد، أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبدا لنا كان ملك الدنيا والآخرة. وتاسعها: لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبرا ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.
فان قال قائل: جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله، أم لو قدم قوله نعبد احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر، والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الامر كما جاز لله، لا جرم حسن تقدم الحمد أم ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك علي نعبد، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله.
الفائدة الرابعة: لقائل أن يقول: النون في قوله نعبد اما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم، والأول باطل، لان الشخص الواحد لا يكون جمعا، والثاني باطل لان عند أداء العبادة فاللائق بالانسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة.