تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٢٥٢
منتقلا من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها، وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما، وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين، وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات، وبعدها جاءت معرفة العبودية، ولها مبدأ وكمال، وأول وآخر، أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد، بقوله: * (إياك نعبد) * وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب، وذلك هو المراد بقوله: * (وإياك نستعين) * ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة، وهو قوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) * وهذا ترتيب شريف رفيع عال يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه.
الفائدة السابعة: لقائل أن يقول: قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة، وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فما الفائدة فيه؟ قلنا فيه وجوه: الأول: أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلها ربا رحمانا رحيما مالكا ليوم الدين، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد. الوجه الثاني: أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23)، و * (ربنا اغفر لنا) * (آل عمران: 147)، و * (رب هب لي) * (آل عمران: 38)، و * (رب أرني) * (الأعراف: 143) والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضا العبادة خدمة، والخدمة في الحضور أولى. الوجه الثالث: أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى. الوجه الرابع: العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقربا إلى الله فينوي حصول القربة، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعا من الثناء على الله، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: إياك نعبد وإياك نستعين.
(٢٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 ... » »»