تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٢٥٥
الأول: المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى. يحكى أن نوحا عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه، وكان يقول في كل مرة: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فان قيل: ان رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة، وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحا عليه السلام كان أفضل منه، والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها.
الوجه الثاني في الجواب: أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى (وكذلك جعلنا كم أمة وسطا) وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفى الأعمال الغضبية وفى كيفية انفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الافراط والتفريط في كل الأخلاق وفى كل الأعمال، وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل.
الوجه الثالث: أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته، وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلا عن سائر الدلائل، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
الوجه الرابع: أنه تعالى قال: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * (الشورى: 52، 53) وقال أيضا لمحمد عليه السلام: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) * (الأنعام: 153) وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضا عما سوى الله مقبلا بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة، مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام، ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسماعيل عليه السلام؛ ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام، ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه
(٢٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 ... » »»