اللطيفة الثانية: أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين، بل قال: * (الحمد لله رب العالمين) * والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا؟ فقال قوم: الشيء حال بقائه يستغني عن السبب، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه، فقوله: * (رب العالمين) * تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه، أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه.
اللطيفة الثالثة: أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: * (رب العالمين) * تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.
ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله: * (الحمد لله) * فأولها: سورة الأنعام وهو قوله: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) * واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله: * (رب العالمين) * لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله، والسماوات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السماوات والأرض؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة.
وثانيها: سورة الكهف، وهو قوله: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط، وقوله في أول سورة الفاتحة: * (رب العالمين) * إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين، فكان