بليغا وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف صوابا في موضوع لغته وطبقا للمعنى المقصود به وصدقا في نفسه ومتى اخترم وصف من ذلك كان ناقصا في البلاغة. والثاني: أن يكون بليغا باعتبار القائل والمقول له وهو أن يقصد القائل أمرا فيرده على وجه حقيق أن يقبله المقول له، وقوله تعالى: (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) يصح حمله على المعنيين وقول من قال معناه قل لهم إن أظهرتم ما في أنفسكم قتلتم، وقول من قال خوفهم بمكاره تنزل بهم، فإشارة إلى بعض ما يقتضيه عموم اللفظ والبلغة ما يتبلغ به من العيش.
بلى: يقال بلى الثوب بلى وبلاء أي خلق ومنه لمن قيل سافر بلاه سفر أي أبلاه السفر وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، وقرئ: (هنا لك نبلو كل نفس ما أسلفت) أي نعرف حقيقة ما عملت، ولذلك قيل أبليت فلانا إذا اختبرته، وسمى الغم بلاء من حيث إنه يبلى الجسم، قال تعالى:
(وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم - ولنبلونكم بشئ من الخوف) الآية، وقال عز وجل: (إن هذا لهو البلاء المبين) وسمى التكليف بلاء من أوجه: أحدها أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء والثاني أنها اختبارات ولهذا قال الله عز وجل: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) والثالث أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فصارت المحنة والمنحة جميعا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلائين وبهذا النظر قال عمر: بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال أمير المؤمنين:
من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله، وقال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة - وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) وقوله عز وجل (وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم) راجع إلى الامرين، إلى المحنة التي في قوله عز وجل (يذبحون أبناء كم ويستحيون نساءكم) وإلى المنحة التي أنجاهم وكذلك قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) راجع إلى الامرين كما وصف كتابه بقوله: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) وإذا قيل ابتلى فلان كذا وأبلاه فذلك يتضمن أمرين: أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره. والثاني ظهور جودته ورداءته. وربما قصد به الأمران وربما يقصد به أحدهما، فإذا قيل في الله تعالى بلا كذا أو أبلاه فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته دون التعرف لحاله والوقوف على ما يجهل من