من النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) إلى آخر القصة. فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في الباب وحديث أبي هريرة أن قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) إنما نزل في أخذهم الغنائم، وذكر في حديث عبد الله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارتهم عليه به، والأول أولى بمعنى الآية لقوله تعالى: (لمسكم فيما أخذتم) ولم يقل فيما عرضتم وأشرتم، ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قوله قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ومن الناس من يجيز ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق اجتهاد الرأي. ويجوز أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم أخذ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة، فعاتبه الله والمسلمين عليها، وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحل قبل نبينا لأحد، وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، فكان في شرائع الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم عليهم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى يثخن في الأرض، واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان، وقد كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)، وقال تعالى في آية أخرى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) وكان الفرض في ذلك الوقت القتل حتى إذا أثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء، وكان أخذ الفداء قبل الإثخان محظورا. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حازوا الغنائم يوم بدر وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء، وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم الله تعالى فيهم في ذلك، ولذلك عاتبهم عليه. ولم يختلف نقلة السير ورواة المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الفداء بعد ذلك، وأنه قال: " لا ينفلت منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق) وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى) منسوخا بقوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم الفداء.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخا وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحضر في شيء واحد؟ قيل له: إن أخذ الغنائم والأسرى وقع بديا على وجه الحضر فلم يملكوا ما أخذوا، ثم إن الله تعالى أباحها لهم وملكهم إياها، فالأخذ المباح ثانيا هو غير المحظور أولا.
وقد اختلف في معنى قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، فروى أبو زميل عن ابن عباس قال: " سبقت لهم الرحمة قبل أن يعلموا