المعصية "، وروي مثله عن الحسن رواية. وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة، وقد وعد الله غفرانها باجتنابهم الكبائر وكتب لهم ذلك قبل عملهم للمعصية الصغيرة.
وروي عن الحسن أيضا ومجاهد: " أن الله تعالى كان مطعما لهذه الأمة الغنيمة، ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحل لهم الغنيمة ". قال أبو بكر: حكم الله تعالى بأنه ستحل لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم حكم الحضر قبل إحلالها ولا يخفف من عقابه، فلا يجوز أن يكون التأويل أن إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده. وروي عن الحسن أيضا وعن مجاهد قالا: " سبق من الله أن لا يعذب قوما إلا بعد تقدمه ولم يكن تقدم إليهم فيها ". وهذا وجه صحيح، وذلك لأنهم لم يعلموا بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين وبقاء هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فاستباحوها على ظن منهم أنها مباحة، ولم يكن قد تقدم لهم من النبي صلى الله عليه وسلم قول في تحريمها عليهم وأخبار منه إياهم بتحريمها على الأمم السالفة، فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب.
قوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)، فيه إباحة الغنائم وقد كانت محظورة قبل ذلك، وقد ذكرنا حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم ". وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وأرسلت إلى الأحمر والأبيض، وأعطيت الشفاعة "، فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذين الخبرين أن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء وأممها قبله.
وقوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم) قد اقتضى وقوع ملك الغنائم لهم إذا أخذوا وإن كان المذكور في لفظ الآية هو الأكل، وإنما خص الأكل بذلك لأنه معظم منافع الأملاك إذ به قوام الأبدان وبقاء الحياة، وأراد بذلك تمليك سائر وجوه منافعها، وهو كما قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة: 3] فخص اللحم بذلك والمراد جميع أجزائه لأنه مبتغى منافعه ومعظمها في لحومه، وكما قال تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) [الجمعة: 9]، فخص البيع بالحظر في تلك الحال والمراد سائر ما يشغل عن الصلاة، وكان وجه تخصيصه أنه معظم منافع التصرف في ذلك الوقت، فإذا كان معظمه محظورا فما دونه أولى بذلك، وذلك في مفهوم اللفظ، ومثله قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) [النساء: 10] فخص الأكل بالذكر ودل به على حظر الأخذ والإتلاف من غير جهة