أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٩١
إليهم على سواء ثم قاتلوهم، قالوا: وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بمال يبذلونه لهم جاز لهم ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة، حتى لما شاور الأنصار قالوا: يا رسول الله أهو أمر أمرك الله به أم الرأي والمكيدة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا بل هو رأي لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أدفعهم عنكم إلى يوم ما) فقال السعدان بن عبادة وسعد بن معاذ: والله يا رسول الله إنهم لم يكونوا يطمعون فيها منا إلا قرى وشرى ونحن كفار، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام؟ لا نعطيهم إلا السيف وشقاء الصحيفة! فهذا يدل على أنهم إذا خافوا المشركين جاز لهم أن يدفعوهم عن أنفسهم بالمال. فهذه أحكام بعضها ثابت بالقرآن وبعضها بالسنة، وهي مستعملة في الأحوال التي أمر الله تعالى بها، واستعملها النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا نظير ما ذكرنا في ميراث الحليف أنه حكم ثابت بقوله تعالى: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) [النساء: 33] في حال عدم ذوي الأنساب وولاء العتاق، فإذا كان هناك ذو نسب أو ولاء عتاقة فهم أولى من الحليف كما أن الابن أولى من الأخ ولم يخرج من أن يكون من أهل الميراث.
قوله تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) الآية. روي أنه أراد به الأوس والخزرج، وكانوا على غاية العداوة والبغضاء قبل الاسلام، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، روي ذلك عن بشير بن ثابت الأنصاري وابن إسحاق والسدي. وقال مجاهد: هو في كل متحابين في الله.
قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) إلى آخر القصة.
حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) قال: " أمر الله تعالى الرجل من المسلمين أن يقاتل عشرة من الكفار فشق ذلك عليهم فرحمهم فقال: (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين). وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال، " أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر ". وإنما عنى ابن عباس ما ذكر في هذه الآية، وكان الفرض في أول الاسلام على الواحد قتال العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت، وصدق يقينهم، ثم لما أسلم قوم آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونياتهم خفف عن الجميع وأجراهم مجرى واحدا ففرض على الواحد مقاومة الاثنين.
(٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 ... » »»