أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٩١
ومن سورة الصف بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون). قال أبو بكر: يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة وأوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به، إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل، وقد ذم الله فاعل ذلك. وهذا فيما لم يكن معصية، فأما المعصية فإن إيجابها في القول لا يلزمه الوفاء بها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين "، وإنما يلزم ذلك فيما عقده على نفسه مما يتقرب به إلى الله عز وجل، مثل النذور وفي حقوق الآدميين العقود التي يتعاقدونها، وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح، فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان. فأما قول القائل: " إني سأفعل كذا " فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله تعالى وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به، ولا جائز له أن يعد في ضميره أن لا يفي به، لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا، فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه. وهو يدل على أن من قال: " إن فعلت كذا فأنا أحج أو أهدي أو أصوم " فإن ذلك بمنزلة الإيجاب بالنذر، لأن ترك فعله يؤديه إلى أن يكون قائلا ما لم يفعل.
وروي عن ابن عباس ومجاهد: " أنها نزلت في قوم قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه، فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه ". وقال قتادة: " نزلت في قوم كانوا يقولون: جاهدنا وأبلينا، ولم يفعلوا ". وقال الحسن: " نزلت في المنافقين وسماهم بالإيمان لإظهارهم له ".
وقوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) من دلائل النبوة، لأنه أخبر بذلك والمسلمون في ضعف وقلة وحال خوف مستذلون مقهورون فكان مخبره على ما أخبر
(٥٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 586 587 588 589 590 591 592 593 594 595 596 ... » »»